في الحديث عن الإرهاب


 

 

فيما يستمر نظام الأسد وحلفاؤه في تعزيز سردية الإرهاب الذي داهم سورية بغتةً، فانبرت له قواته مستنجدةً بالروس والإيرانيين للتصدّي للمؤامرة الكونية الكبرى التي خطط لها العالم، وفي مقدمتهم الشعب السوري، للنيل من صمود الأسد في مواجهته لكل أشكال الشر على الأرض السورية، وفي سياق انهماك الأسد بالاشتغال على توطيد هذه السردية التي لا يملك سواها، بل ربما لا يرى أكثر منها نجاعة لتبرير عدوانه المستمر على السوريين، لا يرى آخرون أيّ بأس من الانخراط في هذه السردية، بغية إعادة إنتاجها من جديد، ولكن ليس بلبوس أمني أو سياسي، بل بمقولات تحمل سمة الفكر حيناً، والسمة الاجتماعية حيناً آخر، بل ربما تلونت بكل أشكال العهر الثقافي والمعرفي الذي يحاول البعض طرْشه على جدران الحانات، ووسائل الإعلام بالمانشيتات العريضة.

ثمة إصرارٌ عجيب على ربط الإرهاب والنزوع إلى العنف بالأديان، بل بدين واحد هو الإسلام، ولمَ لا، ألم تكُ داعش تتحدث باسم الإسلام والمسلمين، ألم تزعم أنها تريد إقامة شرع الله على الأرض؟ ومثلها القاعدة وجبهة النصرة وكافة الجماعات الجهادية التي سعت إلى ترسيخ المنهج الجهادي للوصول إلى السلطة؟ ألم تكُ هذه الجماعات جميعها ذات أصول مرجعية إسلامية؟ وهل بمقدور هذه الجماعات أن تحشد وتجيّش كل هذه الجموع من أتباعها لولا اعتمادها على مخاطبة الجانب الديني أو العقدي لدى الناس؟ كثيرة هي المبررات والذرائع التي يسوقها أصحاب النزعة الطهرانية، والتي يمكن أن تكون شواهد، بل حججاً دامغة، على مسألتين اثنتين:

الأولى: إن الأديان هي منشأ الإرهاب، بل هي المعين الفكري والعقدي الذي يجسّد مرجعية دائمة للنزوع نحو العنف.

الثانية: الإسلام وحده، من دون الأديان الأخرى، هو الذي اختزل عقيدة الجهاد بمنهج العنف المجتمعي، وبالتالي باتت محاربة الإرهاب من الناحية الأمنية والعسكرية مقرونة بمحاربة أصوله أو منابعه المعرفية، أي الدين الإسلامي.

لا شك أن هذا الفهم الذي يؤسس طريقة التعاطي مع الإرهاب، لم يعد مجرد دعوة هنا وهناك، بل يسعى لأنْ يكون ثقافة يلتحف بها الكثيرون، ممّن يطمحون أن تصغي لهم وتتلقفهم بعض الدوائر الدولية أو الكيانات ذات النزعة العريقة في عدائها للإنسانية.

اللافت للانتباه أن هؤلاء الطهرانيين لم يروا في شتى أنواع العنف الذي استهدف الروح البشري عبر التاريخ، سوى العنف الذي تلطّى بشعارات دينية، وكذلك لم يروا في أشكال العنف الديني سوى الإسلامي منه، فهم – على سبيل المثال – لا يجدون في الحروب الصليبية التي استهدفت ملايين الأرواح أيّ ضرب من ضروب الإرهاب، وهم كذلك لا يجدون في الحروب التي تشنها دول علمانية كبرى، تتخذ الديمقراطية وحقوق الإنسان شعاراً لها، على شعوب وأمم مستضعفة، أيّ شكل من أشكال الإرهاب.

لقد شنّت الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003 حرباً فظيعة على العراق، انتهت باحتلاله، بعد قتل مئات الآلاف من أبنائه، وتدمير بناه المادية والاجتماعية، وقد استندت تلك الحرب على مبررات تبيّن أنها كاذبة، بحسب مصادر وزارة الدفاع الأمريكية ذاتها، وأعني التقارير الاستخباراتية التي تحدثت عن امتلاك العراق للأسلحة الكيمياوية، وعلى الرغم من ذلك، فإن تداعيات تلك الحرب الغاشمة ما تزال ماثلة وتتفاعل سلباً حتى الوقت الحاضر، في حين يستمر الفاعل ذاته في فرض نفسه كمكافح للإرهاب، وساعٍ لتوطيد قيم الحق والديمقراطية والعدالة.

لم يتوانَ الروس عن جعل أرض وسماء سورية مسرحاً يجرّبون فيه جدارة ترسانة سلاحهم المكّدس من عشرات السنين، لنصرة حاكم قاتل أمعن في الإجرام، فقتلوا مئات الآلاف من المواطنين السوريين، وشرّدوا أضعافهم، وهاهم يصرون على فرض بشار الأسد حاكماً للسوريين ولو على جماجمهم، علماً أن الروس لم ينطلقوا من شعارات دينية، بل تتماهى عقيدتهم مع ما بقي من الإرث الشيوعي للاتحاد السوفياتي السابق.

إيران الخمينية لم تخف نزوعها منذ الأشهر الأولى من وصولها إلى السلطة، نحو رغبتها بالهيمنة والتسلّط على دول المنطقة والتحكّم بشؤونها (تصدير الثورة)، وها هي اليوم تسهم إسهاماً مباشراً بقتل السوريين والعراقيين واللبنانيين واليمنيين، بل لا تفوتها أن تعلن على الملأ بأنها إحدى القوى المناهضة لثورات الربيع العربي، باعتبار تلك الثورات هي مؤامرات يحوكها الغرب على تيار الصمود والممانعة وفقاً لإيران.

السؤال الذي يبقى مطروحاً على الدوام: لماذا لم تظهر قوى التطرف الإسلامي والجماعات المتشدّدة في سورية على سبيل المثال – إلّا حين انتفض الشعب السوري مطالباً بالتحرر والخلاص من الاستبداد، ومطالباً بالتغيير الديمقراطي نحو دولة العدالة والقانون؟ ثم لماذا استهدفت هذه الجماعات المتطرفة قوى الثورة، سواء الجيش الحر سابقاً، أو الناشطين المدنيين، في حين ظلت مواجهتها لقوات النظام هامشية في غالب الأحيان؟ وبعيدا عن الكلام المكرور عن اختراق أو توظيف أو استثمار النظام للجماعات الإرهابية المتطرفة، إلّا أن النتائج الميدانية الراهنة، وكذلك التداعيات المباشرة لحرب الجماعات الإسلامية في سورية، تكاد تنطق بالكثير من الحقائق.

العنف ذو الأشكال العديدة التي مورست بحق البشر عبر الماضي والحاضر، تؤكّد أن الإرهاب هو مُنتَج ظرف تاريخي، تكمن خلفه دوافع، قد تكون سياسية أو اقتصادية، ولكنه ليس قريناً بأيّ دين من الأديان، ولعلّ الإصرار على جعل الدين – أي دين – مُنتِجاً للتطرف أو العنف، لا يعدو كونه ضرباً من الإرهاب ذاته.

 

 

حسن النيفي

شاعر وكاتب سوري

 

Whatsapp