لن أشعل لها شمعة ... سأقف في حضرتها كما يقف الابن العاق أمام امرأة، هي من صيَّرته إنساناً، ويخطرني سؤال: ما الَّذي بقي منها؟
ستعصف بي كل ذكريات السنوات العشر الخوالي، هذا أكيد، وسيعبر ساحة فكري كل الأشخاص الذين اجتمعت بهم يوماً تحت سقف تلك الجميلة بدعوة منها، أشخاص نسيت أسماء معظمهم، كما نسي معظمهم اسمي، لأجدها لوحدها كما كانت طيلة السنوات الماضية، تنتظر. سيعاود السؤال العنيد طرح نفسه عليَّ مجدداً وإن بصيغة أخرى: ماذا بقي منها فينا؟ أقلب في نفسي الأجوبة المتاحة فأجدها كلها مستحيلة. أين سأجد جواباً لسؤال سهل كهذا؟ عليَّ أن أرفع أكواماً من المواقف وأكداساً من الصفحات والكذب وأطناناً من الأحزان والدموع، وأسترجع ملايين الآمال التي استودعناها مفارق السنوات التي مضت، وخذلاناً كان كافياً لأن يدخلها دار العجزة وهي شابة: خذلان أبنائها لها.
هل تم خذلانها لأجل تحصيل إقامة في بلد أو جنسية في بلد آخر؟ هل تم خذلان شعاراتها لقاء منصب أو راتب؟ هل كان تنكر التنسيقيات لاسمها التي انطلقت لأجلها شرطاً للبقاء؟
سيجتمع كل من فعل هذا وغيرهم من أبنائها ليحتفلوا بها، وسنكتشف أننا كثر، وسنكتشف أننا على قدر من العلم أو الثقافة أو الوعي ربما، ولكننا على قدر هائل من البراغماتية أيضاً. وسنكتشف في عينيها المعاتبتين كل آثار الخذلان الذي قمنا به وتغاضت عنه.
ولتجاوز الأمر سنشعل لها الشموع ونطفئها، وبعد أن يتناول كل منا حصته من كعكتها سنودعها ويعود كل منا إلى شأنه وهو يقنع نفسه بأنه قام بالواجب تجاهها. سنتركها مع آثار الاحتفال بها ومقاعدنا الخاوية. أهذا كل شيء؟
ما الذي بقي لها منا؟ مجاميع بشر يحيط بها البؤس في شمال يسمى تجاوزاً بالمحرر؟
ملايين في تركيا خنقتها في صدورهم همومهم الشخصية والخوف من غد قلق؟
ملايين في أوروبا لا ندري ماذا فعل معظمهم بذكراها؟ لا أجد أثراً لذلك الجواب السهل فالرؤية تتعذر ساعة الغروب. لن أشعل الشمعة التي أحملها لأفتش عنه وسط العتمة التي تحيط بكثير من الأجوبة المطلوبة مثله. سأحتفظ بها معي لأنني أكره أن تذوب وتختفي بذوبانها الأسئلة.
فماذا عنا؟ نحن الذين ننتمي إلى هؤلاء وهؤلاء وأولئك؟
أنتبه إلى نفسي وأنا أتلمس معطفي فجأة، أتذكر أنني أقف في حضرتها محتفلاً، فأهمس لها بكل دفء: كل عام وأنت هوِّيتي.
محمد أمين الشامي
كاتب سوري