السلطة والطغيان


 

 

ينطوي مفهوم السلطة على جوانب معنوية وأخلاقية كما يشتمل على العديد من الدلالات المختلفة بحسب نطاقها وماهيتها، وتتعدّد أنواع السلطة بناءاً على مصادرها المتحدّرة من النصّ أو الثقافة السائدة أو الشخص، ولعلّ السياق الأعمّ لتجسيد السلطة هو في ورودها بمعنى القوة والقدرة لحائزها أو المكلف بها على اتخاذ القرار وإنفاذه. أما السلطة الشرعية بحسب "ماكس فايبر" فهي تلك التي يرى فيها كل من الحاكم والمحكوم أنها مشروعة ومبرّرة.

لقد تطوّر مفهوم السلطة عبر التاريخ بالتوازي مع تطوّر نظم المجتمعات السياسية بدءاً من العائلة ثمّ القبيلة وصولاً إلى الدولة بالمعنى الحديث والمعاصر، أي دولة القانون والمؤسسات. كذلك انتقل مفهوم السلطة من كونه تجسيداً لعنصر الإكراه الناجم عن هزيمة الضعيف أمام القويّ وخضوعه له إلى أن تجسّدت السلطة في مجموع مواطني الدولة، أي الشعب، بوصفه مصدراً لها ومُتصرّفاً بها، يعبّر عنها بإرادته الحرّة من خلال مباشرة نظامه السياسي لوظائفه في التشريع، وفي رسم السياسات ووضع الخطط وتنفيذ المشاريع المختلفة، بحيث يفوّض الشعب عدداً من ممثليه بممارستها لتسيير مصالحه المختلفة في جميع شؤونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك، وبما يحقق مطالبه ويلبي احتياجاته ورغباته الراهنة والمستقبلية. 

لعلّ الجانب الأهمّ لتبلور مفهوم الدولة الحديثة وتطوّره هو في الخلاص من وهم قدسيّة "الدولة/المعبد"، وفي التحرّر من أكذوبة المقدّس البشريّ "الحاكم/الإله"، حيث انتقلت المجتمعات الإنسانية إلى أنسنة كليهما فلم تعد العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي بين السيدّ المالك المطلق والعبد المملوك المقيّد، إنما غدت علاقة عقدية مؤقتة، بين الخادم/الموظف المكلّف وبين المخدوم/ مصدر التكليف، يحكمها الدستور والقوانين مبيّناً بدقة صلاحيّات كلّ من الطرفين المتعاقدين والتزاماتهما، وحقوقهما ومسؤولياتهما المتبادلة.  

ها هي البشريّة تمضي في القرن الواحد والعشرين بخطى واسعة ومتسارعة تراكم إنجازاتها الهائلة في ميادين العلوم الإنسانية والطبيعية كافة، مع ذلك لا تزال بعض المجتمعات تعود القهقرى نحو ظلمات القرون الوسطى بفعل نظم الطغيان التي تأسست على الانتماء العصبويّ التمييزي، وامتطت الأيديولوجيات الجامدة المتشددة، لتصل إلى الحكم، غالباً، بمحض القوة القهريّة وعبر الانقلابات العسكرية، متشحة بالشعارات والتسميات الطوباوية الكاذبة. 

في المثال السوريّ الأكثر وضوحاً ومأساوية، جرت محاولة مستميتة للعودة بالتاريخ إلى بداياته الممهورة بالدم بغية تأبيد حكم الطاغية وسلطته المطلقة، فقد امتهن نظام الأسد الديكتاتوري الجريمة نهجاً وعنواناً عريضاً لسياساته عبر الممارسة العنفيّة القمعيّة بحق المجتمع وما يتصل به من حياة إنسانية، ومن خلال تدمير كل ما أنجزته نخبه من أبنية ثقافية وحضارية، وتخريب منظومات القيم المدنية المؤسسية التي تشكل جوهر السلطة في الدولة الحديثة، واستبدالها بنظم بدائية هشّة ومفوّتة. إنّ هدم البنى الأخلاقية والقيمية واستبدالها بمصفوفات فاسدة وبائدة، وخلق الانقسامات وتعميق الشروخ المجتمعية، كان الفعل الأخطر لما له من الأثر البالغ في ارتكاس المشروع النهضوي الهادف إلى بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، بل ولاحقاً في انهيار الدولة وبناها المؤسسية وركائزها الوطنية.

فيما عدا المؤسسات الأمنية التي تناسلت وتكاثرت لم تعد السلطة في وعي السوريّ ترتبط بالمؤسسة بقدر ارتباطها بالأشخاص وأسمائهم التي يكفي ذكر أحدها لاستحضار مدى نفوذه وإرثه الضخم من الانتهاكات والجرائم المرعبة، كما أنّ مجسّمات الحكم "المدني" لم تكن سوى نسخ كربونية عن الثكنات العسكرية ذات التراتبية القائمة على الولاء والطاعة العمياء، لم يبق من مؤسسات النظام الديمقراطي الأسبق سوى هياكل صورية مشوّهة ومفرّغة من مضمونها تفتقد إلى التقاليد التنظيمية المنضبطة والمشبعة بروح الإخلاص للقَسَم الوظيفي، تملأ شواغرها مسوخ روبوتيّة تفتقر إلى المشاعر الإنسانية والذكاء والحسّ الإبداعي، وتسيّرها جملة من الغرائز البيولوجية لا يمكن إشباعها إلا عبر الانخراط في بوتقة الفساد والإفساد الممنهج، واستغلال مواقع "المسؤولية" التي أسندت إليها وفق حسابات الطاغية السياسية والأمنية ولتخدم مصالحه فقط. 

أخيراً لقد تحولت السلطة المشروعة والمبررة بفعل قراصنة الحكم الجدد إلى تسلط، وانحدر مفهومها في سورية من كونها وسيلة لخدمة مصالح المجتمع في السيادة والأمن والعدالة والتنمية والرفاه، إلى أداة، بل وهدف يمكّن المتسلط من اضطهاد المواطن وقهره وإذلاله، ومن ممارسة الاستبداد والإرهاب والعدوان على المجتمع. 

 إنّ العودة إلى المعنى الحقيقي لمفهوم السلطة المشروعة وإلى شرعيّة من تسند إليه ويفوّض بالقيام بأعبائها لن تتم إلا بالإرادة الموحدة لأحرار سورية وهي الكفيلة وحدها بتحقيق الانتصار لثورتهم.

 

 

علي محمد شريف

ريس القسم الثقافي 

Whatsapp