المستشرقون بين الفن ومفهوم المؤامرة الاستعمارية


 

بالعودة لبدايات تاريخ الانسان نجد أنه استعمل الرسم كإسقاطات عن حياته اليومية التي يتضمنها (خوف، متاعب، طقوس، متطلبات حياتية). هذه الأمور اكتشفناها عنه في رسومات  في الكهوف والأماكن التي كان يتخذها منزلا له، ورأينا كيف استطاع إسقاط خوفه من الحيوان والعوامل الطبيعية كالرعد والبرق، وكيف تطورت هذه الأمور حتى وصلت للتأليه والعبادة، بلا شك لم تتوقف عند هذا الحد، بل تطورت مع تطور الانسان وفق تطور تقنيات الحياة ودخول العمارة وتسخير المعدات اللازمة، ولكن بقي الرسم وسيلة أولى للتعبير عن حالته أو تخليد ما يقوم به، أكبر مثال الفراعنة وكيف استعملوا الرسم على الجدران ليعبروا عن كل ما يحدث لهم بحياتهم اليومية، خلدوا انتصاراتهم وطقوسهم التعبدية، خلدوا آلهتهم التي عبدوها، لم يقتصر الأمر على الفراعنة بل وجدناه لدى الإغريق والهنود والرومان، بمعنى آخر وجدت هذه الاساليب أينما وجد الانسان. 

 

بلا شك تطورت هذه الظاهرة حتى أوصلتنا إلى فن المستشرقين حيث عرف القرن الثامن عشر تدفقاً غربياً باتجاه الشرق بلغ درجة الهوس من خلال هجرة مئات المغامرين والرحالة والأدباء والرسامين والباحثين عن المال والمتع والاكتشافات الجديدة، كانت هجراتهم مكثفة خصوصا باتجاه بلدان المغرب العربي ومصر وبلاد الشام والعراق، سميّت هذه الهجرات فيما بعد  باسم "الاستشراق"،  اقترنت في رؤيتها المباشرة الظاهرة  بإشارات ومشاعر جمعت حب المعرفة والرومانسية والمغامرة، وفي رؤيتها المقنّعة اختزنت رغبة في السيطرة والاحتلال، علماً أن التوغل الأوربي بالشرق يعود لقرون عديدة، ولكن دون أن نسميهم المستشرقين وخاصة بالمراحل الأولى للحروب الصليبية   .

هذه الظاهرة كان نتاجها كتباً ودراسات ومذكّرات وسير والعديد من اللّوحات الفنيّة قدّمت ملامح ذهنية وحسية لبّت تصوّرات الغربي عن الشرق.

 

من المفكرين العرب الذين حلوا ألغاز المستشرقين نجد  إدوارد سعيد حيث فسر هذه الظاهرة الثقافية التي تخفي الكثير لرؤية الواقع العام في المنطقة، ووفق رأيه الذي نحترم هناك رؤية سياسية ممهّدة للاستعمار، استعمار من كل نواحيه وتفاصيله، هذا التفسير العميق والجريء استعرضه سعيد في مؤلفه "الاستشراق" مفصّلا تلك الرغبة القوية في الانتهاك باعتبار أن كل عمل استشراقي سواء كان تاريخيا أو أدبيا أو فنيا ليس سوى أداة لتنفيذ مشروع استعماري امبريالي، هذا التحليل جاء بفترة زمنية تشهد فيها منطقتنا صراعاً ضد الاستعمار بكل أشكاله ، فكرياً عسكريا أو اقتصادياً  حيث كان  المجتمع العربي بأمس الحاجة لفكر يساند نضاله.

هل نستطيع دمج تفسير إدوار سعيد مع ما برز من الرؤى التشكيلية الغربية الاستشراقية؟ خاصة وأن المعروف عن الفنانين المستشرقين أنهم نقلوا ملامح كثيرة من الشرق، وتركوا وراءهم تراثاً تشكيلياً غنيّاً بالألوان والوجوه والرموز ومظاهر الحياة المرصودة في المنجز الفني، فرغم أعمالهم ذات الحس الفضائحي المكتشف لعوالم أخرى ممنوعة هي الحريم، إلا أنهم صوّروا العمارة وفنونها والمدن، وطقوس الديانات والمشاهد العامة والأزياء والعادات والحرف والمناسبات، هنا يعتبر سعيد أن تلك الأعمال ورغم واقعيتها المباشرة ليست إلا تلبية لرغبة خاصة من المستشرق نفسه في الشرق وحياته، وتقديم الواقع هذا كما تصوّرته مخيّلة الفنان، بأجواء ذهنية يحلم بها ويتمناها وفق مقاييس العالم الغربي لكن في إطار شرقي يتمناه الفنان نفسه،  يحاكي فيها  فنتازيا خاصة يرويها من نفسه لنفسه عن نفسه ولكن هل هذا حقاً الواقع أم هو وجهة نظر خاصة . 

 

 

لكي نكون واقعيين ومنطقيين يتوجب التفريق بين قسمين من الفنانين، قسم قام فعلا بزيارة الشرق ونقل عنه برسومات ما شاهده أو ما بقي بذاكرته من مشاهد أو أحداث تركت في نفسه أثراً أراد أن يعبر عنه بإسقاطات رسمية رائعة الدقة، وقسم لم يضع قدمه مطلقا في الشرق العربي ولكن أنتج لوحات فنية متناهية الدقة، متأثراً بما قرأه لكتاب مستشرقين مثلوه بكتاباتهم حياة حلم وخيال دون أن يرسموا لوحة واحدة، بل كانت بنات أفكارهم خصبة ومخيلتهم واسعة ا فأعتمدها هذا القسم من الرسامين لتكون مصدر إيحاء للوحاتهم.

 أخرج هذا الرسام  ما في ذاكرته من مخزون محلّلاً إياه ليركّبه في بناء لوحاته وفق ما توفّر من موديلات وأشكال وتكوينات، فخضعت أعماله الى  معارف وخبرة  الفنان الأكاديمي وحسه للجمال وفق المتاح غير المحرّم في عالمه، مع ربطه في علاقة تناغمية وطيدة ومترابطة مع طبيعة الشرق ونمط تقاليده وما يميّزه خصوصاً "الحريم" فقام بعمليات اسقاط إبداعي على الحريم، ولكن  في الواقع كل لوحات الفنانين التي تضمنتها شخصيات حريمية جريئة ماهي إلا من الخيال ولسبب بسيط، كلنا يعرف أن الشرق العربي بتلك الفترة هو مجتمع محافظ ويتسم بالحياء والقيم فلا يمكن مثلاً أن نرى بهذه الجرأة امرأةً غير متسترة تمشي بوسط شارع المدينة أو القرية، لذلك في الواقع إسقاط هذه المرأة في وسط لوحته ما هو إلا خيال كان الفنان يحلم به .

​بينما إذا نظرنا الى لوحة (الباب الجامع الأموي) لغوستاف باويرنفيند عام 1890 التي تملك دقة عالية للزخرفات وتعكس مهارة الرسام حيث تشعرك أنك أمام صورة مأخوذة بآلة تصوير رقمية عالية الجودة، وتحملك لعالم آخر وكأنه من عالم الخيال الذي قرأنا عنه في قصص سندباد أو ألف ليلة وليلة.

يتبين لنا إذاً أن بعض  الفنانين اعتمدوا  تعبيرات بصرية لمخاطبة شعبهم من خلال الرسم، ونرى البعض  اعتمدوا على ما نقله الكتاب  والرحالة في وصفهم لعالم الحريم أو المرأة الشرقية، وكون تلك المدرسة في الفن أخذت بالتوسع والتطور والانتشار في تلك الحقبة الزمنية فتركت فجوة تفسيرية لدى بعض مفكري وكتاب يومنا هذا كإدوار سعيد، لذلك يتوجب علينا أيضاً النظر اليها من الناحية الأكاديمية التقنية كأسلوب رسم ودقة متناهية، وهنا بهذه الحالة نتحدث فقط تكنيك وأسلوب مزج ألوان وإسقاطات فنية، أما إذا تحدثنا عن مضمون هذه اللوحات فالموضوع يختلف كليا، لأننا سنجد أنفسنا أمام رسالة أراد الفنان إيصالها إلى الشعب سلبية كانت أم إيجابية حيادية، وبلا شك حينها سنقع مذهولين أمام مصادر هذا الفنان التي اعتمدها من كتابات الرحالة والمستشرقين بحد ذاتهم، إذاً نحن أمام رسم تقني بامتياز وأمام رسالة لها مضمون، وهنا سنبحر في عالم الفنان المستشرق أكثر ونرى تطور هذه الامور التي أوصلتنا الى ما نحن عليه من منتج فني.

 

 عالم الحريم أو المرأة الشرقية

 هذا العالم الذي كان من الصعب اقتحامه فهو فضاء البيوت المغلقة المحكومة بسلطة الرجال، ونتيجة هذا الغموض جعلت الغربي يسعى دوماً إلى اكتشافه من خلال رسم المرأة الشرقية في لوحات قريبة من تلك اللوحات الغربية الكلاسيكية التي ميّزت الأعمال الفنية في عصر النهضة بأوروبا وما تلاها من فترات ميّزت تاريخ الفن التشكيلي الغربي، حيث كنّ يرسمن كشخصيات دينية في بورتريهات الطبقة الرفيعة، أو نساء عاريات على شيء من الحسيّة بالنسبة لعامة الناس، وهذا في حدّ ذاته ليس نقلا واقعيا مباشرا لصورة المرأة الغربية وإنما انعكاس عام لسيكولوجية الفنانين الغربيين في تلك الفترة، فتمثيل النساء على ذلك التصوّر كان إسقاطاً لما يريده الرجل وتمرّداً على طبيعة المجتمع الغربي، فكانت صورة المرأة الشرقية وفق ذلك الإسقاط تحيطها قدسية جذابة ممزوجة بفنطازيا شرقية، زخرفات المكان، طبيعة الشرق، الأزياء، الألوان، التنوع (عربيات، بربريات، إفريقيات)، فهي ليست الشرق الحقيقي لأنها تصورات ذاتية معتمدة على موديلات مراسم روما و باريس ولندن، مثل ما جسّده الرسام الفرنسي "دي لاكروا بأعماله الشهيرة خاصة "نساء الجزائر"، وكذلك لوحات عكست زخارف البيوت الشرقية وعوالمها المحاطة بالحريم مثل الحمامات العربية كلوحة "نساء عاريات تستحم"، أو "سوق النخاسة" للرسام الفرنسي "جين ليون جيروم.

في أعمال المستشرقين تتراءى الشخصية الشرقية مجزّأة بين رجل يملؤه العنف والغيرة، وامرأة مستضعفة تتحايل على سلطة ذلك الرجل بالمكر والحيلة أو بالفتنة والإغراء، فالمستشرق الغربي ركّز على تلك الرؤية ضمن ثنائية التسلط والاستضعاف، وغطت هذه الثنائية مساحة واسعة من كتابات الغربيين وأعمالهم الفنية، غاضين الطرف عن جوانب الحياة الشرقية الأخرى.

 

أما الطبيعة الشرقية بمخزونها وبإسقاطات أشخاصها فقد أثرت في لوحات  المستشرقين وتكويناتها، مما أضفى عليها أجواء وجدانيّة ونفسيّة حاولت أن تخلق وعياً مختلفاً عن واقع مختلف عن البيئة الغربية، وهو ما جعل شخصيّة الغربي المستشرق تنشر رغبته في الهيمنة من خلال وعيه بإقامة منطقة متخيّلة في ضوء مضامين مألوفة أو غير مألوفة، وهذا أضفى على لوحات المستشرقين دقّة وثراء ووضوحا يشبه الواقع مع تجديد بصري وغرابة مدهشة وفق تصوّرات ذاتية عن الشرق، حيث طغت الألوان الزاهية الحارة على أغلب الرسومات وهو يمثل المناخ الصحراوي الحار أو حتى الواحات الخضراء المحاطة برمال الصحراء، ليعطي للناظر مجالاً للذهاب بخياله وتحفيز روح المغامرة والفضول لديه .

كيف تأثر الغرب 

كلنا يعلم أن موضوع الفنون من رسم الى نحت هو أمر ممنوع وفق مفاهيم الاسلام لذلك لم يستطع أن يتأثر المستشرق بإبداعات شرقية في هذا الميدان، ولكنه تأثر جدا بفن العمارة والزخرفات الجدارية وخاصة الخشب الذي استعمل كجداريات وعوازل في الصالونات والشبابيك، كذلك أثرت على المستشرق  أدبيات وشعر وفلسفات خاصة بمنطقتنا تركت لدى المستشرق بصمة كبيرة حتى ما قبل القرن الثامن عش، أما إذا أبحرنا في عالم آخر كفكرة الوجود وعالم الخير والشر فنجد قصة رسالة الغفران التي ترجمت الى عدة لغات ووصلت الى الأوربي قبل المستشرقين وأثرت عليهم ونجد ناتجها بقصائد (الكوميديا الإلهية) التي حولت الى رسومات وإسقاطات بينت مضمون تلك القصائد، مما يدل على أنه هناك تأثر فكري فلسفي بما كتبه المعري، ألهم الكوميديا الإلهية عدداً من الأعمال الإبداعية في مجالات الفن والعمارة والأدب والموسيقى  وحتى الدورية الباباوية "الله محبة" عام 2006 استمدت إلهامها من البيت الأخير من كتاب النعيم، وإذا انتقلنا إلى أعمال أخرى وكيف تأثر الفنان والفن بفلسفات روحانية سنجد دافنشي وأنجلو ورسوماتهم وخاصة إسقاط سفر التكوين أو حتى الإنجيل ككل كيف تم سرده عبر رسومات على زجاج الكنائس وأسقفة الكاتدرائيات، ولا ننسى كيف أن  كل فنان أراد أن يعبر عما يفهمه من الانجل وخاصة الجنة والجحيم والتضحية للمسيح حتى دب خلاف بينهم وبين الكنيسة لأنه لكل منهم وجهة نظر بتلك السرديات للقصص .

إن دل هذا الموضوع على شيء فهو يدل على أنه لا توجد حضارة تقوم من تلقاء ذاتها، حيث لا بد أن تتأثر وتؤثر على جيرانها من الحضارات، وأيضا أنه هناك دائما أغراض وأهداف تكمن وراء من يقوم بتلك الدراسات فمنها كما أسميناهم بالسلبيين ومنهم الايجابيين، وإذا عدنا الى الكاتب الفذ إدوار سعيد ووفق وجهة نظره فإن عالم المستشرقين هو عالم تحضيري لفكر وحملة استعمار بامتياز، رغم ذلك هناك ايجابيات تركت بصماتها في كل الميادين، فكرية علمية أدبية فنية، وهذه البصمات منها من الشرق على الغرب ومن  الغرب على الشرق، ويبقى هذا الموضوع من أهم واكثر المواضيع وسعاً حيث يمكننا كتابة مجلدات ومجلدات عنه كونه يحتوي الفن والأدب، الفكر والتاريخ، وحتى صراع الحضارات. 

 

 

سمير خراط

كاتب وباحث سوري

Whatsapp