الجاهلية من جديد


 

عندما كانت المظاهرات تعمُّ أرجاء البلاد وترى المتظاهرين والثوار كتفاً بكتف ينتابك شعور حقيقي بأن الشخص الذي بجانبك هو أخ لك رغم عدم معرفته مسبقاً، وباختصار إنه (الانتماء) فنحن دائماً بحاجة لمن نعيش معه ولجماعة ننتمي إليها، ولكن السؤال هنا، مع من وكيف ولماذا يتم الانتماء لهذه الجماعة البشرية أو تلك؟ 

يحدِّد ابن خلدون العصبية كمعيار أساسي لانتماء الإنسان للقبيلة أو للجماعة، ويخصص بأن عصبية القرابة والنسب هي أقوى أنواع العصبيات، إنه الانتماء الماديّ الجسديّ.

لقد عاشت القبائل العربية في صحراء شبه الجزيرة العربية أقوى أنواع (عصبية الدم والنسب) حيث الاعتزاز والفخر بالقبيلة، وقد ظهر ذلك بأشعارهم بشكل جليّ، إلى فترة ظهور الإسلام الذي كان بمثابة المدمر لذلك الانتماء الذي خلف على مستوى كل الشعوب ظواهر العنصرية والتمييز العرقي، فهذه الحالة لم تقتصر على العرب الجاهليين فقط، بل كانت موجودة في كل شعوب الأرض، وخلَّفت هذه الحالة حروباً حصدت آلاف البشر، ليس من أجل قضية بل لأجل حميّة وفزعة عمياء، فكانت العصبية البدائية هي المحرك الأساسي للحالة الاجتماعية والثقافية، حقيقةً كانت أشبه ما تكون تلك المجتمعات بمجتمعات النحل والنمل وقطعان الذئاب تجمعهم حالة غرائزية مما يؤدي لتماسك لتلك المجتمعات وتصبح محصنة ضدّ الغزو الخارجي، إلى أن جاء الإسلام بمنظومة مفاهيم جديدة كلياً على تلك البيئة، حيث الانتماء أصبح ما ورائياً وليس فيزيائياً، فالقبيلة لم تعد قطعة أرض ولا جماعة ذو نسل وعرق واحد، بل القبيلة أصبحت منظومة فكرية تشمل الناس أجمعين على اختلاف مشاربهم وأعراقهم وألوانهم (لقد انتقل مركز الانتماء البشري من منطقة أسفل البطن إلى منطقة ما فوق الأكتاف).

لقد كانت نقطة تحول كبرى في تاريخ البشرية، فالتآخي خارج إطار الدم والعرق والانتقال للتآخي في النظرة المشتركة لقضايا الكون والإنسان، واستمرت هذه الحالة سائدة رغم بعض الانتكاسات وهذا ما يفسر نشوء دول متعددة الأعراق في المنطقة الإسلامية مثل المماليك والعثمانيين والعرب وغيرهم. امتداداً لفترة الاحتلال الغربي للمنطقة وبعدها ظهور الدولة القومية والقطرية، فعادت كل بقعة تبحث لنفسها عن أصول وأعراق قديمة في محاولة إحيائها من جديد (عرب وفرس وفراعنة وترك وكرد.. إلخ)، ولم تكن ثورات الربيع العربي مجرد انتفاضات لقلب أنظمة الحكم السياسية، بل كانت في جوهرها ثورات لاستعادة قيم إنسانية كبلتها تلك الأنظمة السياسية، فحالة التآخي التي نشأت بين المتظاهرين والثوار في البدايات تجاوزت الغرائزية العصبية العرقية وارتقت لمستوى التآخي والانتماء الذي جاء به الإسلام بعد عصور الجاهلية، فما عايشناه خلال السنوات الأولى للثورة من خلع للانتماءات المقيتة من مناطقية وعشائرية والدخول في انتماءات قيمية إنسانية عليا (حرية، كرامة، عدالة...)، فشهد المجتمع إعادة ترتيب أولويات انتمائه، فكثير من العشائر قرَّرت الوقوف إلى جانب الأنظمة ولكن أبنائها انتقلوا للجانب الآخر رغم قوة سيطرة العشيرة على تماسك القرار الداخلي، إلا أن النور الذي انبثق مع بداية الانتفاضات كان أقوى من أن تقاومه تلك الانتماءات العشائرية المقيتة، لا أستطيع أن أنسى تلك السنوات التي كان فيها الثوار من جميع الفئات والعائلات والبلدات يخلعون عنهم تلك الانتماءات العفنة ويصوغون منظومة جديدة تظلل كل المجتمع ولا تختلف من حيث المبدأ عن تلك المنظومة التي ظهرت في صدر الإسلام، فثورة الكرامة أصبحت المعيار الأول للأخوّة بين أبناء الشعب الثائر، فكانت تأثيراتها ضمن الأسرة الواحدة، فالكثير تخلى عن أسرته الموالية لأجل أن يحيا الحرية والكرامة المنشودة وصار له أسرة جديدة ممن يشاركونه نفس القيم من الثوار، إنها ذات الحالة القيمية التي تملّكت المسلمين الخارجين من مكة للمدينة الرافضين لمنظومة القبيلة الغرائزية، والمتطلعين للعيش ضمن منظومة إنسانية كبرى .

وكما هو معروف فإن الانتكاسات والهزائم تُولِّدُ على الصعيد المجتمعي ردّات فعل عكسية تتمثل بالنكوص والعودة لما قبل، فوفاة النبي صلى الله عليه وسلم بمثابة انتكاسة خلفتها (رِدة) شملت مناطق واسعة بالجزيرة العربية، لأنها عودة للقبيلة التي توفر للإنسان نوعاً من الحماية والانتماء بعد الشعور بالفشل للمشروع الجديد.

وما يحزنني اليوم أن نرى عودة للمناطقية والعشائرية والعائلية تسود مناطقنا المحررة بعد شعور بالفشل لمشروع الثورة الكبير فاليوم نشهد عبر مواقع التواصل مهاترات ومشاحنات مناطقية مقرفة بين قرية وأخرى ليتها بلغة الجاهلية التي تمدح القبيلة وتهجو الأخرى بشعر فصيح رصين وإنما بلغة فقدت الفصاحة والرصانة وأبقت على الجاهلية، فلم تعد منظومة قيم الثورة تظلنا، وليس لدينا قبائل معروفة النسل والعرق فأنشأنا ما يسمى المناطقية والعائلية الضيقة لنوفر لأنفسنا نوعا من الحماية والشعور بالانتماء المفقود.

فالجاهلية هي البهيمية التي تعيش في ظل الانتماء للجنس، هذه البهيمية التي تجثو على صدورنا فتحجب عنا لذة الانتماء لفكرة مشتركة مع بني جنسنا، لم تقم الحضارات العظيمة إلا بعد أن ساد بين أفراد المجتمع علاقات مبنية على الفكر السامي الذي يجمع البشرية على خلاصها وسعادتها، ولم تنهَرِ الدول والامبراطوريات إلا بعد أن تملكتها عصبية العرق والدم وغاب عنها الهدف الأرقى كما كانت قبائل العرب قبل الإسلام، فليعذرني علاَّمتنا ابن خلدون في مخالفته في أن العصبية يمكن أن تبني مجتمعات ودول متماسكة وقوية، ولكنها مجتمعات أقرب للقطعان، فالعصبية إذا ما تملّكت مجتمعاً ما ستبقى حلقاتها تصغر من القبيلة إلى العشيرة إلى المنطقة ومن ثم إلى الأسرة على عكس التحرر من العصبية الذي يبقى في حالة اتساع من الأسرة ليشمل الإنسانية جمعاء .

خلاصة القول علينا أنْ نعي أنَّ المشكلة هي غياب الفكر الثوري الذي جمع مختلف أفراد المجتمع السوري وحتى العربي على فكرة التحرر وتطبيق قيم الحق والعدل، فعندما تغيب هذه الروح ستظهر المناطقية والعشائرية بأقبح صورها وخاصة في ظل غياب الدولة، فنحن دائماً بحاجة لتجديد النظر في انتماءاتنا كي لا نبعثَ الروح بالجاهلية من جديد.

محمد ياسين نعسان

كاتب سوري

Whatsapp