في بداية الثمانينات وفي بيت صديق لي سألتني أمي عن صورة معلّقة على الجدار:
- مَنْ هذا الذي في الصورة
كانت تقصد صورة غيفارا، وحين قلت لها بأنه رجل كوبي أرجنتيني قاد الثورة الكوبية، قاطعتني أمي واضعة يدها على فمي وهمست في أذني:
- لا تلفظ هذه الكلمة.
كانت أمي تعرف الكثير عن الثورات رغم أنها لا تفكُّ الحرف لأن خالي مجيد منعها عن الذهاب الى المدرسة قائلاً يومها هذه العبارة:
عيب
خالي مجيد كان يعرف الكثير عن الثورات وكان بيته مضافة القرية، ففي كل مساء يجتمع العشرات من رجال القرية في بيته ويحكي لهم عن التاريخ بمتعة وأسلوب شيِّق، فكانت أمي تسمع من وراء الباب ما يدور في الغرفة من أحاديث فتعْلَق الأسماء في ذاكرتها.
روت لي أمي عن الثورات وأنا طفل فعلِقت الأسماء في ذاكرتي ثورة (محمود البرزنجي)، وثورة (سمكو آغا) شكاك، وثورة (كوشجيري)، وثورة (البرزنجي) الثانية، وثورة الشيخ سعيد، وثورة سمكو آغا الثانية، انتفاضة (آرارات)، وثورة (أحمد البرزاني)، والثورة (اليزيدية)، وثورة ١٩٦٧، وثورة البرزاني واتفاقية الحكم الذاتي.
كانت أمّي تحفظ كل هذه الأسماء والثورات وكيف تم قمعها بقوة السلاح لذلك وضعت يدها على فمي حين قلت لها عن تشي غيفارا.
للكردي تاريخ طويل مع الثورات فهو يعرف ويتذكّر القرى التي لم يبق لها أثر، أتحدّث عن آلاف القرى، ويعرف كم دقيقة تستغرق الطائرة في ضرب قرية بالنابالم، ويعرف الأنفال والنزوح المليوني نحو الجبال ويعرف غاز السارين جيداً من حلبجة ويعرف قيم الثورات ومبادئها ألا يسقط مدني واحد ضحية الكفاح المسلح.
في بداية الثمانينات عاد عمّي من العراق، عمي هذا باع أرضاً في سهول زرافكة ليسافر للعراق ويلتقي بالملا مصطفى البرزاني وبعد أيام صار عمّي رجلاً آخر وسمعته يقول:
في قلب كل سوري ثورة لكن الخوف يؤجل انفجارها.
كنا نعرف حينها أن الثورة أمل قاتل لكنه الأمل الوحيد للكرامة، وكنّا نعرف أن هذه الحكومات لا ترحل إلّا بمعجزة ربّانية وكوارث عظيمة بفظاعتها، هذه الحكومات التي تتسلّم السلطة من سابقاتها بالانقلابات والإعدامات فقط، وكنا نعرف أن الثورة هي بصيص أمل لا أكثر ومحاولة انقلاب على المستحيل.
بدأت الثورة السورية واستمرت لبضعة أشهر حتى تم إخمادها بطريقة ذكية، وتم انتزاع الاسم منها خوفاً أن يسجل التاريخ اسمها كثورة، وفي غضون أيام ظَهَر اللصوص وقطاع الطرق والهاربون من العدالة والمجرمون، وتم ضخ الأموال والسلاح من كل صوب وحدب كي لا يرى العالم مسيرات الشموع ولا يسمع أغاني القاشوش والساروت والحلم المستحيل / حانن للحرية حانن /.
وصارت الثورة مشروع استثمار دموي مربح، وحلّ الدمار العجيب إلى أن وصلت الغالبية منّا إلى التشكيك بالثورة ونسبها إلى الذين سرقوها بخطط استخباراتية على حساب الشعب وممتلكاته
ونجحت الخطة الرئيسية في تمثيل هؤلاء للثورة وتحريف المسار نحو نهب القرى في كامل الجغرافيا السورية وتعرّفنا على البغداديين والجولانيين والعلّوشيين والميليشيات والوحدات والفصائل والكتائب والأحزاب وسائر المخلوقات العجيبة وصرنا ساحة لمعارك الآخرين.
عشرة أعوام على الثورة والمدن تباع باتفاقيات تسليم، والقرى والأحياء وعمليات الخطف اليومي وقطع الرؤوس وصراع المرتزقة على النهب بات الحدث اليومي لوطن جريح.
أنا مع الثورة لأنني منذ طفولتي أحب الثورات وأعرف تماماً أنها لن تأتي بالحرية على طبق من ذهب لكنها اهتزاز سيترك أثراً لمئات السنين، وأعرف أن هذا الاهتزاز هو حجر الأساس لمشروع الحرية والكرامة.
سيتعافى هذا الوطن يوماً ليعيش فيه الأحفاد حياة كريمة خالية من اللصوص والعنصريين وسيقول الأحفاد عنّا بأننا أبطال حاولنا بأدواتنا البدائية بالشموع والورد أن نشعل ثورة.
سيتعافى هذا الوطن وسيعود الحق لأصحابه وتعود القرى لأهلها فلا تفقدوا الأمل:
لن أفقد الأمل، لن أفقد الأمل، إنها سوريا العظيمة، سوريا الجميع كما كانت قبل أن تحلّ عليها كل هذه اللعنات.
محمد سليمان زادة
شاعر وكاتب سوري