لم يعد الأمر بحاجة إلى تأكيد أن الحاقدين على تركيا لم يكتفوا بالاحتفاظ لأنفسهم بذاك الحقد على هذه القوة الكبيرة المتنامية، بل حولوه إلى أفعال واضحةٍ بيّنةٍ حيث يريدون هدم تجربة ديمقراطية واقتصادية مميّزة حوَّلت تركيا من دولة مرهونة مدانة إلى مصاف الدول الكبرى المؤثّرة، وجعلت منها رصيداً استراتيجياً عظيماً للأمتين العربية والإسلامية، وذلك لثباتها على مواقفها وتأييدها لحركات الشعوب الجريحة من فلسطين إلى تونس واليمن ومصر والعراق وسورية والصومال وأذربيجان وغيرها، ولأن الكثير من تلك الأنظمة الإقليمية المشترِكة بالمؤامرة تدرك مدى هشاشة بنيانها وضعفها والكيفية التي تسلطت فيها على رقاب شعوبها، ومن هنا بدأت بالتدخل في الشأن الداخلي التركي في محاولة لإجهاض التجربة التركية خشية أن تصبح مثالاً يُحتذى به فيجذب الشعوب المهمشة والمقموعة لتلك الدول ويحثها على التفكير الجاد بتغيير أحوالها وذلك بدءاً بالحرب الاقتصادية المجحفة على هذه الدولة الصاعدة، ومروراً بتغذية العمليات الإرهابية التي استهدفت وتستهدف أمن تركيا واستقرارها، ويمكننا أن نشير هنا -على سبيل المثال لا الحصر- إلى بعض العمليات الإرهابية التي تعرّضت لها تركيا منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011 نتيجةً للموقف المبدئي الذي اتخذته بدعم وتأييد هذه الثورة المحقّة، ومن أهم تلك العمليات الإرهابية:
- هجوم على معبر "جيلفاغوزو" الحدودي، جنوب شرق تركيا والقريب من معبر باب الهوى في 11 شباط 2013، وقد أسفر عن سقوط 17 شهيدًا.
- هجوم مزدوج في 11 أيار 2013، أسفر عن مقتل 52 شخصاً في مدينة الريحانية جنوبي تركيا قرب الحدود مع سورية، حيث تم توجيه أصابع الاتهام للنظام السوري مباشرةً.
- هجوم في مدينة سوروج "سوروتش" قرب الحدود مع سورية في 20 تموز 2015 أسفر عن سقوط 33 شهيدًا، ونحو 100 جريح من المدنيين، وقد اتهمت السلطات التركية آنذاك تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" بتنفيذه.
- تفجيران وقعا صباح يوم السبت 10 تشرين الأول 2015 قرب محطة للقطارات في العاصمة أنقرة، وقد أوديا بحياة 97 شخصاً، ونحو 200 جريح.
- تفجير في العاصمة أنقرة في 17 شباط 2016 أودى بحياة 28 شهيدًا، وعشرات الجرحى، والذي أثبتت التحقيقات أن الذي قام بتنفيذه أحد أعضاء حزب "الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري".
وقد واجهت الحكومة التركية وما تزال العمليات الإرهابية التي تستهدفها بالحزم والقوة، فخاضت الكثير من المواجهات مع أعدائها في الداخل والخارج، وهي اليوم ما تزال تخوض مواجهات مستمرة منذ سنين عديدة مع "حزب العمال الكردستاني" وخاصّةً في المناطق الجنوبية والشرقية من البلاد حيث سقط العديد من الجنود الأتراك خلال تلك المواجهات.
إنّ الإرهاب الذي أخذ ينتشر في المنطقة خاصّةً بعد قيام بعض الدول العالمية باستغلال ثورات "الربيع العربي"، وتغيير بوصلة تلك الثورات من المطالبة بالحرية والمساواة والعدالة إلى فوضى عارمة غذّتها وما تزال تلك الدول بهدف إبقاء المنطقة في حالة من الحروب والنزاعات المستمرة، وضرب كل محاولات التطور والتقدم في تلك المنطقة، وتركيا التي شكّلت مثالاً متقدماً على كافة الأصعدة، والتي أضحت قوة لا يُستهان بها في المعادلات العالمية اليوم، باتت في مرمى الاستهداف، خاصّةً وأنها اتخذت مواقف مبدئية مشرّفة تجاه الثورات العربية ووقفت إلى جانب مطالب الشعب العربي، ويبدو أنها اليوم تدفع ضريبة هذه المواقف.
يخطئ من يعتقد بأن الحملة الشرسة التي شنتها الإمارات والسعودية والملايين التي موّلتا بها التنظيمات المعادية لتركيا أتت باجتهاد منهما، كما يخطئ أكثر من يعتقد بأن لا علاقة بين إطلاق الأميركان للأذرع الإيرانية في المنطقة والتغاضي عن هيمنتها على أربع عواصم عربية وبين ما يُخطط ويُبيّت لتركيا، كما يجانب الصواب أيضاً من يعتقد بأن أنقرة لا تعي ولا تدرك كل ذلك، نعم هي أدركت ماذا يبيّت لها بالضبط، وبأنها أضحت شبه وحيدة في مواجهتها لكل تلك المكائد. وهي من هذا المنطلق تتعامل مع كافة الأطراف وفقاً لتلك المعطيات بنفَسٍ سياسي طويل، ووفقاً لما أضحت تمتلكه من إمكانات ذاتية لا يُستهان بها.
قرنٌ مضى، شهد العالم خلاله أفول محاور وولادة أخرى، حيث تفكك خلاله نظام دولي وتشكّل آخر، وقد تبدّلت فيه موازين القوى في العالم بعد اندلاع الحربين العالميتين ثم الحرب الباردة، والمشهد الذي قض مضاجع الدول الاستعمارية اليوم هو أن تركيا القادمة من بعيد هي على وشك استعادة دور أكثر ريادية وتقدماً في مشهد دوليٍّ صاخبٍ وغير مستقرّ ويشي بتحولات كبرى في العالم ستغير كافة النُّظم السابقة وتقلب كافة المفاهيم.
محمد علي صابوني
كاتب سوري