المتنصّل


 

عقد من الجمر اكتملت أحجاره الملتهبة حول الأعناق البيضاء، تلك المتآخية في عشق الأرض وبقسَمِ الحرّية والدمّ، المنجدلة كأغصان البتولا والمشرئبة نحو حلم لا يراوده الشكّ ولا ينال منه انكسار أو يأس.

عقد من الحنظل والشوك تجرّعه كلّ الشعب لا يختلف سوى بالكمّ عن عقود سبقته من حكم نظام مافيويٍّ قاتل مارس صنوف الإرهاب والإجرام جميعها بحقّ السوريّ، عقود من الفولاذ المسنّن التفّت كأنشوطة حول رقاب الأحرار وحفرت عميقاً في أرواحهم المحلّقة وما زلت تتلطى أيّها المتنصّل من بقايا إنسانك المهزوم أمام جبنك وصَغارك، وتتوهّم بأنك الناجي من مقصلة الظالم بخستك ودناءة مطلبك.

لقد انسحبت مبكّراً من ميدان الضمير ومن مسؤولية النطق بالحقّ إلى هوّة سحيقة من الضلال فسقطت أيها العبد الهارب من قدر الشجعان في مستنقع الرذالة والأرذال، اّما البياض اللاذع أمام عينيك فليس أكثر من عدمٍ يتحدّى حوافرك المستنفرة وجسدك المرتعش، ليس أكثر من فراغ ماجن يستنطق حروفك الخرساء، تماماً مثل محقق خبيرٍ يعرف حقيقة ما يصطرع من أفكار نافقةٍ في رأسك، ويرمق بازدراء علامات القلق والخوف المرتسمة على وجهك، إنه امتحان لم تمنحه ما يستحق من تفكيرٍ ومن جهدٍ ووقت.

كم من نهارات بدّدت في حمأة انشغالك بما لا يستر عريك أو يغلق باب جوعك الأبديّ إلى التهام حياة لا تشبه الحياة، وكم من ليالٍ وهبتها للتلصّص على الأحلام المورّدة للناس الطيبين، ولنصب الكمائن القاتلة في فسحات قلوبهم البيضاء، وفي عقولهم المجنّحة بأخيلة الجمال والحبّ، ها هي دلاؤك متشققة من يباس روحك، ومن لسع مخيلتك المحكومة بالنضوب والموت.

لطالما اعتدت أن تكون على مقاعد النظّارة متفرّجاً على انتهاك شرفك وافتراس إنسانيتك وانتهاب حقوقك، ومصفقاً ماجناً في مسرح مكشوف يعرض لمأساة أنت بطلها الفاجر، والضالع في روايتها المزيّفة، وكذلك ضحيّتها البائسة. لطالما كنت المشاهد الصامت، بل الشاهد المنحرف المتعجرف، والمحرّف لصور اغتيالك المستمرّ، كنت الممثل الفاشل وكنت جمهور القطيع المولع باجترار ذلّه وصمتِه عن سحقه، وعن قتل الإنسان فيه، والراقصَ على ما تبقى من جثته المتعفنة وعلى أشلاء شرفه وكرامته. 

لم تكن أيها المتنصّل سوى حفرة مملوءة بالقذارة في طريق الأطهار السائرين نحو انتزاع الحرية واستعادة الكرامة، تبغي إلى ابتلاع إرادة الشرفاء الأحرار والإيقاع بمشروعهم الإنسانيّ بين فكّي الطغيان المتوحش، الذي لا يرى وجوده واستمراره إلا في مجنزرةٍ عمياء محشوّة بكَ وبالبارود تفجّر بذور الثورة الخضراء وتسحق عظام الرافضين للعبودية. كنت أيها المتنصل نقطة سوداء في لوحة النشور، وكومة من الدّنس الرّطب في مشهد الدمّ المقدس.

لقد تنصّلت من وصايا الله في الذود عن عرضك وأرضك، والدفاع عمّا هو حقّ، تنصّلت من أمّك وأبيك ومن الحقيقة، بل ومن ارتباطك بحقيقتك المغيّبة كإنسان، لم تعد تنتمي لصورتك التي زيّفتها بيديك، طمست ملامح إنسانك فيها، ومسحت ألوانها الدّالة على انتمائك وعلى حقك في الحياة الكريمة، جرّدتها من صفاتها المجبولة على العدالة والحبّ، واستبدلت إرادة الخير ونصاعة الفضيلة وما تكتظّ به من جمال بعزيمة الشيطان وما يحتشد فيه من الشرّ والقبح ومعاني الرذيلة. 

عقد من السنوات العجاف مرّ ثقيلاً مترعاً بالمرارة والقهر مذ أطلقت حناجر السوريين أوّل هتافاتها للحرّية ومضت هادرة في زواريب معتقلها الكبير، وفي ساحاته المحشوة بألغام زرعت لتنفجر بكلّ من يتجرّأ على الجهر بالحلم وبأنّ خلاياه ما تزال تنبض بالرفض، وبأنّ كائناً شقيّاً يسمّونه الإنسان ما برح مملكة الجسد مخبِّئاً في أعطافه رغبات مشاغبة بالخلاص من الطغيان وبعالمٍ يسوده الجمال والخير والعدل.

أشلاء الضحايا الأبرياء ما تزال ساخنة لن تبرد، وكذلك قلوبهم وإن أصبحت تراباً لن تنطفئ في أفئدتها شعلة الدمّ. أما أنت أيها المنسحب من عقدٍ وعهد، والهارب من استحقاق الحرية فقد تبرّأت منك الحقيقة وتنصّلت من وجودك الحياة.

 

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي 

Whatsapp