مازلنا بذكرى انطلاق ثورتنا السورية، التي جاءت لتقهر الواقع وتغيّره، والثورة في الفكر مثل الثورة في العمل، إنها تبدأ من الرفض ومن موقف سلبي، لكي تصل إلى البناء، إنها تنشُد تحرير الإنسان، وتهدف لخلق إنسان جديد، وفي هذا السبيل لابد لها أن تبدأ رفضاً صارماً لواقع الظلم ولكل ما يُضيّع الإنسان ويستبد بحريته ومصيره، وهذا ديدن ثورتنـا.
والنظرية الثورية، لا يمكن أن تُصّطنع أو تُلقن، وهي كذلك لا تُستعار، بل هي عملية خلق لا تقوم إلا من خلال المعاناة والنضال، وجميع الذين يؤمنون بثورية العمل الجماهيري، مطالبون بأن يجندوا أفكارهم لتخطيط مبادئ ونهج هذه الثورة؛ وكمُسَلَّمة ثورية: «إنك لن تستطيع أن تقهر إلا الشيء الذي تستطيع دحضه، وليس بمقدورك أن تتمثل، إلا التفكير الذي تضعه على محك النقد ومن هنا يكون البـدء».
ويقال عن فعل ما أنه ثورة عندما يفجر بنية نظام كـ«سستم» قائم من الداخل، ولا يعود من الممكن استمرار ذلك النظام استناداً إلى الأسس التي قام عليها، نتيجة لتقطّع خيوط الاتصال التي تجعل من بنيته قابلة للاستمرار؛ وحتى عندما نتحدث عن ثورة علمية، فلا يمكننا القول أن الجديد قد ألغى القديم بالمطلق، لكن تلك الثورات جعلت من المستحيل استمرار النظريات والبنى العلمية السابقة كما هي، والعديد من تلك النظريات لم يتم الاعتراف بها ولا أخذها على محمل الجد في وقتها، بل غالباً ما تم إعادة اكتشافها وإثبات صحتها بعد سنوات وعقود، وهذا ينسحب على تجارب النهوض الحقيقية للشعوب والأمم ومنها شعبنا وأمتنا، فكتاب «في الفكر السياسي» بجزئيه الصادر في ’’آذار1963‘‘، مثلاً، لـ«أساطين الفكر السياسي في سورية: جمال الأتاسي والياس مرقص وياسين الحافظ وعبد الكريم زهور عدي»، قد عاين نقدياً واقع التكاذب والكذب السياسي آنذاك، وقام باستشراف آفاق مستقبل شعبنا وأمتنا، نسترشد به نقدياً بعد كل تلك السنين؛ فحياة «ماركس» أو «نيتشه» كانت فاشلة بالكامل على المستوى الفردي، ولكن كلاهما أنتج سلاسل مركبة من الثورات الفكرية «والواقعية» مازالت آثارها قائمة حتى اليوم، بل إن أفكار ماركس التي أطلقت ديناميات تحرر ومقاومة على مستوى العالم، لم تنجز مطلقاً في الواقع إلا الديكتاتوريات المعادية للتاريخ الذي بجّلهُ ماركس كجدلية انعتـاق وحريـة.
الثورة السورية ليست استثناءً تاريخياً ولو أنها استثناءً في تاريخ كياننا السوري، إنها صيرورة ثورة لا توجد نتائجها في مقدماتها، صيرورة هدم وإعادة تشكيل لا تتوقف ولا يمكن توقّع نتائجها بطريقة ميكانيكية ساذجة، وككل صيرورة، لا تكف عن الحركة والتناقض الذاتي وإفراز التناقضات القصوى، إلا أن تناقضاتها هي تناقضات شبكية تتصارع فيها قوى متنافرة ومتداخلة بشكل هائل بقوى محلية وإقليمية ودولية، يتفرع كل منها لشبكات قوى محلية متقاطعة ومتنافرة ومتحاربة، وشبكات قوى إقليمية ومحلية تتقاطع مع بعضها أفقياً وعمودياً، بشبكات قوى دولية تعيد تكرار الاختلاف تبعاً لحركة القوى المسيطرة على الأرض، ولا تكف عن اختراق التاريخ- الشخصي للأفراد والجمعي للسوريين- لإعادة إنتاجه وهيكلته داخل سورية وفي الشتات، بوصفه تاريخاً متعدداً غير قابل للتأريخ المفرد أو التواصلي الذي يجمع الجميع ضمن سردية واحـدة!
فالإنسان الذي يؤمن بالثورة، والذي يعتقد أن الإنسان هو الذي يصنع التاريخ، ويكافح لتبديل المجتمع وإزالة ما فيه من استغلال وعبودية وضياع للإنسان، لابد له من خطة لهذا التبديل، وأن تكون غايته واضحة المعالم، وطريقها واضحٌ أيضاً، خطة تقيهِ التعثر والانحراف، ولابد لأفكاره من أن تندمج في حياة البشر والتاريخ الذي يصنعه البشر؛ فالتفكير الثوري، تفكيرٌ واقعي كل الواقعية، لكنه يملك فوق ذلك، القدرة على الانسلاخ عن الواقع ليتطلع إليه خلال نظرته إلى المستقبل ومن خلال إرادته في تبديل هذا الواقع والمشروع الذي يضعه لهذا التبديـل. وطالما أن الحاجات المستعجلة للنضال، قد تسبق التخطيط النظري بدايةً، فواقع النضال وضرورات المعركة قد لا يسمحان له بالانتظار، فيأخذ بما يجده جاهزاً من أفكار ومن شعارات مطروحة وهذا ما شاهدناه عيانياً، وعندما يريد المناضل أن يرتفع إلى المستوى الحقيقي للثورة، إلى مستوى التحويل الجذري للمجتمع وللعلاقات الإنسانية، فلابد للتخطيط النظري أن يتقدم وأن يواكب العمل والنضال، وأن يعطيهما الوعي والوضوح، وأن يكشف لهما الغاية والمعالم الواضحة للطريق.. وهذا للأسف لم يحصل في ثورتنا وبجميع ثورات الربيع العربـي.
فقد كانت الثورة السورية، في بعض وجوهها، أثراً للثورات العربية، فتأثير الثورة المصرية تعدّى عالمنا العربي؛ الجانبُ العربي ظاهرٌ فيها إذاً، ظاهرٌ من دون أدلجة، سيما أن العرب كرهوا الأدلجة الرخيصة التي امتازت بها الأنظمة، ولكن تتالي الثورات وترابطها، وتكرار ذلك منذ أواخر 2010، يقول بضرورة التفكير الجادّ بها، وأن المسألة الوطنية لا تكفي بذاتها لفهم «عدوى» الثورات وحاجات الشعوب إلى التطوّر ومواجهة الليبرالية العالمية والهجوم الشرس للدول الإقليمية أو العالمية، فلندقّق في تموضع كل الدول المتقدّمة في الوضع السوري وكذلك الليبي وأيضاً اليمني، خصوصاً، إنه التدخل بكل شؤون عالمنا العربي؛ فهناك علاقة بين الوطني والعالمي، فكيف السبيل إلى علاقة كونية تعزّزُ من الوطنية والترابط مع العالم، ورفض السياسات الليبرالية الجديدة، ومنها ليبراليتنا العربية معتنقة السياسات ذاتهـا؟
لم يكن علوَّ المسألة الوطنية واللبـرلة في الأوساط الثورية وحده المدخل السليم للأفكار الثورية، حيث فشلت فشلاً ذريعاً، بعدما اعتُمِدت بعد 2011؛ وتقول أحوال الدول العربية، ومنها تونس، إن تلك الأفكار، إضافة إلى مشاريع الإسلام السياسي، لم تُخرج البلدان العربية من أزماتها، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فهناك ضرورة لتفكيك أسباب الفشل، والإشاحة كلياً عن الأفكار «السحرية» كالقول بالوطنية حلاً جذريّاً، أو القول بالقومية أو الإسلام السياسي أو اليسارية كما كانت؛ فكل هذه المشاريع قَدمت نفسها بديلاً جذريّاً، وتتقدم الليبرالية بالإطار ذاته، لهذا فشلت واقعياً بعد 2011، ولا تُختصر أسباب الفشل بأثر الاستبداد أو العولمة أو إحدى الأيديولوجيات؛ فما هو حال تونس؟ ألم تقع فريسة الخلافات «العقائدية» بين تياراتها السياسية، وتَفشل في الخروج من أزمتها الاقتصادية والاجتماعية، والتي كانت جذر ثورتها، والثورات العربية؟، القضية إذاً تتجاوز الركون لبعض الأفكار الليبرالية وتصوراتها السياسية، التي لا تتجاوز الوطنية المحليـة.
هناك مشكلة كبرى، تكمن في فصم كل علاقة بين الوطنية والقومية، وطبعاً فصم كل علاقة بين الوطنية والطبقية، حيث تقدّم الليبرالية السياسية «الوطنية» باعتبارها تمثل الكل الاجتماعي، والقومية محض أيديولوجيا، ولم تعد صالحةً للتقدّم، ومفيدة للأنظمة فقط؛ وترى القوى الليبرالية الرؤية الطبقية محض أيديولوجيا وثرثرة، ولا تخدم التطوّر؛ رؤية الليبرالية العربية أقرب إلى الأيديولوجيا والعقيدة الإيمانية، وضمن أوهامها أن الاعتماد عليها سيشكل الدولة والهوية الوطنية، وسندخل التاريخ، ونسبق الأمم التي تجاوزتنا منذ قـرون!
لا يستقيم الوضع في سورية أو أية دولة عربية خارج ذاتها وخارج العالم العربي وبالطبع ضمن العالم؛ ففي عصر الليبرالية والسوق المفتوح لصالح الدول العظمى، لا يمكن المواجهة اعتماداً على أفكار بسيطة بديلة عن التركيب المُعقد المشار إليه، الطبقي والوطني والقومي، وكذلك العالمي، نقصد إقامة صلات مع حركات عالمية لها الاهتمامات ذاتها، ترفع من شأن التحرّر والحريات والمساواة بين أمم العالــم.
عبد الباسط حمودة
كاتب سوري