بيتنا في دمشق



 

في دمشق كنا نستأجر بيتاً في منطقة الفحامة قرب الإطفائية، وكان هذا البيت ملعب طفولتي الواعية، النزول عدة درجات إلى القبو الذي هو بيتنا، عدة غرف مع صالون، الضوء فيه قليل لكن المميز فيه فسحة واسعة هي منور للبناية وهي حديقة بيتنا المبلطة وفيها ركن للنباتات التي كانت تهتم بها أمي إضافة إلى شجرة كبّاد كبيرة.

وكان من أمتع ما يبهجنا أنا وأخي أن تطلب منا أمي أن نشطف الفِناء، إذ عندها نسفح الماء على الأرض ونركض ثم نتزحلق على ركبتينا ونتراشق بالماء إلى أن تنهرنا أمي، وهناك تجلس أمي تقطع الخضار أو تحيك بينما الجارات يمددن رؤوسهن ليحادثنها طويلاً.

ذات يوم أتى أبي مع كرتونة ضخمة فتحها متهللاً ليعلن المفاجأة السعيدة:

  •  اشترينا تلفزيون 

 وكان التلفزيون السوري قد افتتح منذ فترة وجيزة، وهكذا كنا ننتظر أول المساء ليفتح التلفزيون (إذ كان يبث عدة ساعات فقط) بالنشيد السوري (وكنا معتادين أن نقف في هذه الأثناء وأنا وأخي ضاربين التحية العسكرية حتى نهاية النشيد)، وبعدها تأتي فاكهة الوقت المنتظرة، إنها أفلام الكرتون (باباي) رجل البحرية القوي الذي كلما أكل السبانخ فإنه يستطيع أن يهزم غريمه العملاق والمتوحش وعادة ما يفوز ب (لوسي) حبيبته النحيلة في اخر الحلقة!

تحت السرير

من الطقوس المحببة لنا أنا وأخي كان النزول تحت سريرنا المرتفع ونتسطح على الأرض ووجهنا للأعلى باتجاه (الراصورات) مع الظلمة نسبياً هناك كان يطيب لنا أن نقضي وقتاً طويلاً ونحن نغني معاً (إلى فلسطين طريق واحد يمر من فوهة بندقية) ولعبد الحليم حافظ (خلي السلاح صاحي) ولعبد الوهاب (دقت ساعة العمل الثوري)، عشرات الأغاني الوطنية التي كانت تملؤنا حماسة، كنت أكره المدرسة وأجدها كالسجن وأما الوظائف فكالأشغال الشاقة المؤبدة!!

المدرسة

كان علينا أن نمشي من الإطفائية لندخل بباب سريجة المسقوف من أيام الأتراك والذي يمتد إلى الشارع الذي يفصله عن مدحت باشا ( السوق الطويل )، وطوال الطريق وعلى الجانبين دكاكين الخضرة والبقالة والفلافل والحبوب إلى ما هنالك، ويكتظ بالمارة والدراجات ونداء الباعة، قبل نهاية الشارع بقليل وإلى اليمين دخلة تؤدي إلى مدرستنا ذات السور العالي والبوابة الكبيرة والآذن الذي يتمتع بسلطة أن يدخلنا أو يغلق الباب في وجوهنا إن تأخرنا دقائق، فإن دخلنا متأخرين قليلاً يمنعوننا من الالتحاق بصفوفنا وهم يؤدون تحية العلم قبل انطلاقهم إلى الصفوف، أما المتأخرين فيأتي إليهم الموجه القاسي القلب عادة وبيده عصا تدب الرعب في قلوبنا الصغيرة، وبلا شفقة ينهرنا لنمد أيدينا وتبدأ فصول استرحامنا بلا جدوى (الله يخليك استاذ والله ما بعيدها) ( آاي))))))))).)، نمد أيدينا المرتجفة ونحاول سحبها قبل أن تنال منها العصا فيزمجر الأستاذ لأن عصاه طوحت في الهواء فيعاود الضرب ويقسو، دموعنا المنهمرة لا تعني له شيئاً، ولم يكن غريباً ألا يكتفي بالضرب بالعصا فيضربنا كفوفاً على وجنتينا ، ونلتحق بالصفوف ليمر الوقت بطيئاً ولتستمر طويلاً عملية حشو المعلومات والاستظهار عن غيب والاستهزاء بمن يخطئ، كان هذا عادياً تماماً أما غير العادي والذي يحدث احياناً أن يكون هناك أساتذة يحببونك بالمادة ويسامحونك إن أخطأت، لكنني كنت أُتقن الهروب من كل هذا الجحيم  بالشرود !!

وحين يقرع جرس الفرصة يعم الصياح والفرحة من كل الصفوف، نخرج لدقائق معدودات لنواجه عنفاً من نوع آخر، التلاميذ مجموعات أو لنقل شللاً، تتصارع أو تلهو بعنف وتتقاتل، ويسخر البعض من البعض، أما من كان خارج هذه المجموعات فوضعه صعب لأن كثيرين سيميلون لمخاشنته أو السخرية منه، ولم أنضوي إلى هذه الشلل، لكن أخي كان يحميني، ببنيته القوية وعينيه الحادتين الذكيتين وكان حاضراً بجانبي أغلب الوقت، ولطالما عارك الآخرين وكان مهاب الجانب، وأين أهرب من العنف؟ عنف في المنزل، في الشارع، في المدرسة، قد يبدو بأني غيبت أوقاتا جميلة، ربما، لكن الهدوء قبل العاصفة سيصبح جزءاً من قسوة العاصفة لمن ينتظرها !!

غزل البنات.. سميد بالسكر

في المدرسة يتناقل الأولاد مغامراتهم، وأتى وقت تحدث فيه الكثيرون في المدرسة أنهم يبيعون بعد الدوام (غزل البنات) وهي لفافات من السكر المغزول على شكل غيمة صغيرة ملفوفة، وتحدثوا عن مصنع قريب يعطي صينية مليئة ويتحاسبون  فيما بعد البيع مع الولد الذي سيبيع، تحمس أخي للفكرة وبالفعل باع وربح قروش كثيرة، أما أنا فلم يعطوني لأبيع لأني صغير، عدت إلى البيت حزيناً وحكيت لأمي عن رغبتي في البيع، ضحكت وقالت: الحل عندي، سأعمل لك صينية سميد بالسكر وأقطعها مربعات وأعطيك طاولة صغيرة لتبيعها على باب البناية، فرحت بالاقتراح وانتظرت بلهفة أن تصنع أمي السميد بالسكر، وبالفعل جلست وراء طاولة صغيرة ووضعت عليها الصينية وانتظرت أن يأتي الأولاد ويشتروا مني، ولما مر الوقت ولم يشتر مني أحد قررت أن أجرب بنفسي قطعة، فأكلت المربع الأول ووجدته لذيذاً، فصرت كلما أحسست بالملل أُداويه بأكل مربع آخر، ولم يمض وقت طويل قبل أن أعود إلى البيت مع طاولة وصينية فارغة وبطن ممتلئ، فضحكت أمي وأخبرت العائلة ليضحك الجميع حتى تعبوا من الضحك، وكان هذا آخر عهدي بالتجارة !!.

 

 

 سميح شقير

موسيقي وشاعر سوري

Whatsapp