مرفأ اللاذقية  125


 

 

كلما قررنا أن نطبخ كفتة بالصينية، وبدأتْ الرائحة تملأ فضاءَ المطبخ، أتذكرُ السفن اليونانية التي كانت ترسو في مرفأ اللاذقية.

لم أكنْ أحبُ البحر أبدأ، لم يكن البحرُ مصدرَ متعة بالنسبة لي بل على العكس، كان مصدرَ شقاء وبؤس ورعب، مع هذا فقد استهوتني رواياتُ حنا مينة منذ كنت مراهقاَ...

ذات صيف حار حين كنت أعمل عتالاً في المرفأ خلال العطلة الصيفية بعد المدرسة، وبينما نحن في جوف عنبر السفينة بين أكياس الإسمنت الذي يُدمي الكفوف ويسدُّ الأنوف، حانتْ استراحة الغداء.

صعدنا إلى سطح السفينة وبدأنا بأيادينا التي يسيلُ الدمُ منها نفتحُ زوّاداتنا البائسة "رغيف خبز، قرص بندورة، بصلة يابسة، بضع حبات من الزيتون..."، وشرعنا نلتهم السمّ الهاري الكفيل بإبقائنا على قيد الحياة، لنتابع مسيرة الكفاح والحلم، بين أكياس الإسمنت الحار التي تذهب لتشييد قصور الأوغاد، وبين وروايات حنا مينة..

كانت رائحة الكفتة في تلك الظهيرة تنبعثُ من مطبخ السفينة ممزوجة بشيء من نسيم البحر المالح، رائحة أسطورية جعلتني أحقد على الخبز والبصل والزيتون والإسمنت والحياة..، صار حلمي الوحيد في هذه الدنيا أن أصبح ذات يوم بحاراً يونانياً أجوب بحار العالم وآكل الكفتة بالصينية على أنغام أغنية " يا ماريا يا مسوسحة القبطان والبحرية " وحين أملأ بطني، أداعبُ النادلة الحسناء في بار السفينة، وأقول لها باللغة اليونانية: (ساغاباو)، أحبّكِ.

كبرنا... وتغيرت الدنيا وتبدلت الأحوال، لكن حلم الكفتة لم يبارحني لحظة واحدة، كان ينمو في داخلي ويكبر ويتضخم لدرجة صرتُ فيها أعتقد أن بلاد اليونان كلها تأكل الكفتة يومياَ...!

في المعهد المسرحي، كان المُحاضِرُ يحكي لنا عن تاريخ المسرح الإغريقي، وكيف نشأ من الطقس الديني في أثينا، وكيف تم تشييد المدرج على سفح الجبل عند الأكروبوليس مجمع الآلهة. كنتُ أثناء المحاضرة أسرحُ بخيالي، وأتصورُ أن زيوس ربّ الأرباب قام بخيانة زوجته هيرا مع امرأة من البشر فأنجبتْ له (ديونيزوس) بعد أن أغوته وأغرته بصينية كفتة فاخرة تليق بالآلهة.. 

كنت أعتقد أن البطل اليوناني (أخيلوس) صار بطلاً لأنه كان يأكل الكفتة يومياً، وأن حرب طروادة لم تقم إلا لأن باريس اختطف هيلين لأنها كانت ماهرة جداَ بطبخ الكفتة بالصينية، وأن خديعة حصان طروادة ما كانت لتتم

لولا أن المحاصرين توهّموا أن ذلك الحصان الخشبي العملاق كان مليئاَ بالكفتة...!

وها أنا الآن في شيخوختي المشردة بين المنافي، ما زلت أحلم بعالم خالٍ من الحروب، ومن أكياس الإسمنت اللئيم، عالمٍ آمنٍ يسودُه الحبُ والأمنُ والسلام والعدل في توزيع الكفتة.

 

أحمد قشقارة

فنان وكاتب سوري

 

Whatsapp