المختلف الضالّ



 

نحن مختلفون. نعم، تلك حقيقة لا سبيل لإنكارها ولا مناص من التسليم بها، لا بدّ من الاعتراف بجرأة ويسر بأن دوائر اختلافاتنا تتوالد وتتسع وتتشعّب كلما ازدادت معرفتنا، واقتربنا أكثر فأكثر من تخوم ذواتنا المنغلقة، وتجاوزنا حدودها المسوّرة بالأسلاك الشائكة المكهربة.

سنكتشف مواطن جديدة للاختلاف ومساحات أوسع للاشتباك حين تضطرنا أقدار وظروف، لا يد لنا فيها ولا ينبغي لها أن تمنح فئة منا تفوقاً أو امتيازاً، إلى أن نتعاقد على صيغٍ تربطنا وتنظم عيشنا المشترك على هذه البقعة الصغيرة من الأرض، تلك الأرض التي تضيق بجهلنا وأنانيتنا، وترحُبُ بفهمنا لطبيعة تكويننا كبشر وباستجابتنا لمتطلبات وعيٍ تفرضه مصلحة إنساننا وحاجاته الطبيعية البسيطة.

مختلفون نحن بالرغم من تشابهنا ومن كثيرٍ من الصفات والخصال التي تجمع ما بيننا، ليس ثمة فرق بين من يواجه الشمس بعينين مغمضتين وقلبٍ أعمى وبين من يدير ظهره للنور ويحفر بعيداً في الأنفاق المعتمة، كلاهما لن يرى غير صورته وحيدة مزنرة بالوحشة ومؤطرة بالخوف، كلاهما لن يلتقي ضالّته ولا الآخر وستزداد المسافة ما بينهما وما بين كونٍ جميل يحتاجهما معاً.

مختلفون ليس لأنّ واحدنا ينتمي للبحر والجبل والآخر للسهوب أو الصحراء، مختلفون ليس لأنّ فينا الفقير بما ملك وربما بما يمكنه أن يملك، وفينا الغنيّ بما لديه عن السعي إلى ما لا يحتاج أن يملك، مختلفون ليس لأن بعضنا يميل للبياض وللعيون الخضر ويعشق الزرقة والموج والزبد، في حين أن بعضنا الآخر مولّه بالرّند والسمرة والعيون السود وتأسر لبّه الكثبان المتموّجة والسراب، فلكلّ أسراره وعظمته ومنابت فتنته، لا شيء ولا أحد في عالمنا الموقوت سيبلغ عتبة الخلود، لا شيء ولا أحد بمنأى عن التغيير والتحوّل، قد تتبدّل الأهواء والقناعات والمقاصد، وتتغيّر قواعد العشق التي تتجاوز العدّ والعدد. وفي كلّ حال سيكون لمعول الزمن تأثيره الحتميّ على الإرادات والقدرات، كما أنّ لسنن الخلق قرارها المبرم في التبدّل والاستبدال.

مختلفون على قاعدة الرفض والنفي والإلغاء لمن ولما هو مختلف، ندخل حلبة الحوار بألسنة مسنّنة مسمومة وبأفواه محشوة بالبارود، مدفوعين بالرغبة في الاستحواذ والهيمنة وبمنطق المتغطرس الساعي للغلبة والسيادة والسيطرة على الغير الدون، الضعيف، النكرة، نجهد لكي نبرهن على واحديتنا وصفريّة الآخر.

نختلف لا لأننا نبحث عن الحقيقة والخلاص والحبّ إنما لنرسم الحدود المضللة لمعرفتنا ولمعرفة شركائنا في الحوار والتواصل، ولنضع قيود مفاهيمنا المغلوطة وأقفالها على عقول من نرغب في مبادلته مراسم الحبّ، ولنكبّل حواسّ من يتوسّم في مجاهيلنا المظلمة الحقيقة والخلاص والحبّ، لا. بل أبعد من ذلك، إننا نسعى لكي نهيمن على مشاعرهم وقناعاتهم وإراداتهم، فنضيف رقماً جديدً في عداد من استطعنا أن نضعهم في معتقل رغباتنا، ونجملهم في حصيلة ما تضمه حظيرتنا الشخصية من أملاك وأصول مادية وبشرية.

كم هي عبثية وقاتلة تلك الصراعات والمعارك التي نخوضها لكي نبدو كذباً أننا متفقين، حروب حمقاء باهظة الكلفة حصادها الوهم ومآلاتها الخراب والفناء، تبدّد الوقت، رصيدنا المحدد بدقة وصرامة لأعمارنا، تفتك بالعقل وبحقيقة وجودنا المنذور للعطاء والإبداع، وتحجب الفكر الرافض للموت الطارئ الذي تتسبب بحدوثه إرادات غبيّة، وتقتل احتمالات الحبّ وبذور الجمال الكامنة في صلصال تكويننا الإنسيّ.

ما ينبغي التسليم به هو قدرتنا على أن نكون مختلفين إنسيّين نقرّ بطينتينا الإنسانية، نبتعد عن التأله والتأليه والتشيطن والشيطنة، أن نتوجه بإرادتنا المتحررة من أغلال الحقد والكراهية إلى الإقرار بالحق في الاختلاف وبطبيعيته، وبلزوم احترامه وضمان ممارسته، أن نصل إلى مملكة القناعة والرضا بضرورة وجود المختلف ليتحقق للحياة المعنى والغاية والهدف.  

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي

Whatsapp