الأحداث تتدحرج تباعاً بسرعة الأحلام فتنسينا ما نحن بصدد معالجته أو متابعته أو تدارسه أو حتى الإنصات إلى ما يقوله البعض عنه. أذكر أن ذكرى ما تقترب لحدث محلي (كنا ندعوه وطنياً) وقع في أربعينات القرن الماضي يتناول موضوعة التحرر والاستعمار وتلك المفردات التي كدنا ننساها، لكن، هناك الآن محاولة انقلاب طازج في الأردن تطغى ويمكن أن تدل على الشرخ الحاصل بين أبناء الأسرة الحاكمة، وهناك أصابع اتهام تشير كالعادة إلى شيطان العربان وعراب وساوسه. لا بأس، يبدو أن الأمر ظاهرياً قد مر بسلام إلى حد ما هناك.
نعود إلى ذلك الحدث القادم بعد أيام لنستذكر وقائعه وما تلاه من ديمقراطية حقيقية وانقلابات عسكرية. لكن، هناك عريضة وقع عليها 104 ضابطاً تركياً من أمراء البحر القدامى ونشروها عند منتصف هذه الليلة (4/4)، كعادة مؤسستهم القديمة قبل أي انقلاب، يطالبون فيها السلطة والقائمين عليها، وعلى رأسها الرئيس إردوغان، باحترام الإملاءات الغربية التي فرضت على تركيا فيما يتعلق بالممرات المائية (اتفاقية مونترو) وغيرها من القضايا. وكالعادة، استعملوا تلك العبارات المهترئة التي تعلموها وحفظوها في مدرسة العسكرتاريا وغفلوا عن واقع يقول إن الزمان بات غير الزمان وأن غيرهم كان أشطر. الملفت هو تكرار الوقفة العظيمة للأتراك، حتى من بعض المنتمين إلى أحزاب معارضة، من هذه العريضة وإدانتها، وإن اقتصر الأمر على نزول الشعب إلى ساحات وسائل التواصل الاجتماعي نتيجة الحظر "الكوروني" كما قيل.
يعني، نستطيع القول إن الأمر لم يتعد كونه زوبعة في فنجان، حتى الآن، ما لم تكن له استطالات نشطة تحت السطح الراكد.
قبل أن نرجع إلى ذلك الحدث المحلي التاريخي الذي نحاول استذكار ظلاله الباهتة، فلقد طلبت السلطات الأردنية، قبل حادثة الانقلاب الفاشل، من خنساء الثورة، حسنة الحريري، مغادرة أراضيها في غضون أسبوعين، هي واثنين آخرين هما ابنها إبراهيم الحريري ورأفت سليمان الصلخدي حسبما ذكر في بعض المصادر، الأمر الذي تسبب في اندلاع أعمال عنف فيسبوكية وانطلاق ثورة شتائمية أشعلت العالم الافتراضي وقام بها مواطنون ولاجئون ومتجنسون من خلف الشاشات لبعد المسافات، مع كيل لعنات من قلوب عامرة باليقين طالت الحكومة والسلطة والشعب والأرض والنهر والغور والشرق والغرب والتاريخ والسلالة هناك كالعادة. وقابل كل ما ذكرنا سكوت مطبق لحكماء المعارضة الذين عودونا على العمل بصمت دون لفت نظر أو إثارة ضجة بشأن ما يقدمون عليه من "مواقف".
ترانا نستطيع الحديث عن ذلك الحدث الآن وما بقي من فاعلياته؟ لا. ليس بعد. فهناك حدث جلل شهدته مصر تمثل بنقل مومياوات، وصفت بالملكية، من مستقر إلى مستودع. ولكونها "ملكية"، أقامت لها السلطات "الجمهورية" حفل نقل من الدرجة الأولى كلف دولة "العوز" القناطير المقنطرة من الجنيهات. وقد فعلوا خيراً أن لم ينقلوها عن طريق القطار، وتجنبوا في مسارهم صعود الكباري التي أنشئت في العهد الميمون، فيما احتشد الشعب خلف شاشات التلفاز للتعرف عل ملكاته والدعاء لملكته بمصير مشابه من التكريم.
ثم ماذا؟ بقي أن نذكر التوتر القائم بين أوكرانيا مدعومة بالاتحاد الأوروبي "الديمقراطي الحر" والولايات المتحدة "البايدنية" من جهة، وبين روسيا "الارتزاقية" البوتينية التي باتت العلامة الفارقة لكل حركات التمرد الظالمة على الأنظمة الشرعية الشمولية والداعم الأول لكل الأنظمة الديكتاتورية المسكينة في المنطقة والعالم والمجرة من جهة ثانية. وتبقى العيون على موقف تركيا في كل هذه المعمعة الحمراء.
قد يقول قائل فهذه كلها أحداث عالمية وإقليمية، فأين حدثنا التاريخي الذي ألمحت إليه؟ الحقيقة أنني كدت أنساه، فالأحداث التي يشهدها عالمنا مثل الزلازل، ولكل زلزال توابع قد تكون أشد منه ونتائجها أكثر ضرراً. ونحن الآن في طور تقييم نتائج الزلازل التي أتينا على ذكرها قبل أن نلتفت إلى تلمس توابعها وتبعاتها. لكنني أعترف أنني حرت في تصنيف الحدث التاريخي القادم فلا أدري إن كان زلزالاً في حينها أم من توابع زلزال ضرب موعداً في ذلك اليوم البعيد مع مصائر بلا بصائر، أو أنه في الأساس كان مجرد مناورة من المستعمر الذي خرج من الباب ووسع الشباك ليدخل منه لاحقاً من يريد ليتابع "مسيرته".
ولأنني لا أدري له هوية، فكل ما أذكره عنه أن والدي كان يقول "ليتهم ما خرجوا" كلما حل يوم 17 نيسان/ابريل. كنت صغيراً على الاستفسار عمن يكونون ولماذا يريدهم أن يبقوا. ومع تعاقب الأيام وتتالي الأحداث عرفت ما عناه، بغض النظر عن اتفاقي معه أو معارضتي له. واليوم أقف أمام الذكرى وأنا أردد "ديغول خبر دولتك باريس مربط خيلنا" فيما عيناي تجولان بين الخرائب التي سببها الحزب المعادي للاستعمار، والنظام المناهض للإمبريالية، ومحور المقاومة والممانعة الإسلاموي العَلماني الاشتراكي الرأسمالي الطائفي الذي يقف سداً منيعاً في وجه من يعادي أئمته، بالتعاون الوثيق مع نصيرة المستضعفين من الأنظمة السيدة روسيا حرم الاتحاد السوفياتي.
ولكي أنهي المداورة، أظننا يجب أن نراجع تسمية "عيد الجلاء" والتأكد من صدقيتها وإمكانية تطبيقها الفعلي على بلد كبلدنا، إذ يكفي التاريخ ما استوعب من كذب على لساننا، ويكفينا ما أصابنا، إشارة إلى الهتاف الذي ذكرت بشأن ديغول ومربط الخيل وغيره من المراجل والعنتريات الفارغة. نحن كنا وما زلنا تحت الاحتلال، احتلال محلي حالي من قبل النصرة وقسد وفصائل التجار والمهربين والمتاجرين بالنازحين هدفه الحرية؛ واحتلالات أجنبية قائمة تنتمي إلى كل الاتجاهات تستهدف غدنا؛ واحتلال فكري إيديولوجي مزمن هو الأدهى لأنه يستهدف ثقافتنا وتراثنا وعقيدتنا. ويوم ننتهي من هذه الاحتلالات، يمكننا أن نعلن بملء الفم أنه لنا الدنيا وزهوتها. أما الأهم حالياً في الأحداث التي غطت على تلك الذكرى القادمة فهو نجاح الشباب في جامعة عنتاب في دفع إدارة الجامعة إلى إعادة رفع علم الثورة مجدداً بدل علم الاحتلالات ليعلنوها مدوية: لنا ابتهاج وللباغين إرغام.
محمد أمين الشامي
كاتب سوري