من باريس إلى طهران 


صدر منذ أيام قرار عن الحكومة الفرنسية يمنع مشاركة المحجبات في مباريات كرة القدم وذلك بعد أيام فقط من قرار آخر غريب يمنع الذبح الحلال للدواجن على الطريقة الإسلامية واليهودية.  وكانت الحكومة الفرنسية الحالية قد اتخذت العديد من القرارات وأظهرت الكثير من المواقف التي تهدف بشكل واضح إلى التضييق على المسلمين في فرنسا ومحاصرة الثقافة الإسلامية بطريقة استفزازية في كثير من الأحيان، من ضمنها إغلاق العديد من المساجد ومنع الحجاب في الجامعات ومنع لباس البحر الشرعي واعتراض وزير الداخلية على ظهور فتاة محجبة على التلفزيون الفرنسي وخروج العديد من أعضاء البرلمان الفرنسي من قاعة البرلمان بسبب وجود فتاة محجبة داخل القاعة. وهكذا.

تبرر الحكومة الفرنسية (يمينية الهوى) قراراتها بأنها دفاع عن الثقافة الليبرالية والعَلمانية في فرنسا، والواقع أن هذه القرارات والمواقف تتناقض مع قيم العَلمانية والليبرالية التي تنادي بالحرية والمساواة وعدم التدخل بحرية الاعتقاد والممارسات الشخصية لأي مواطن أو جماعة. المسألة إذاً ليست مرتبطة بالثقافة والقيم الليبرالية. إنها مرتبطة بشكل واضح بالتاريخ والأيديولوجيا والسياسة والرواسب المتغلغلة في اللاوعي – وربما الوعي – الفرنسي والمتعلقة بالعداء للإسلام منذ معركة بواتييه (بلاط الشهداء) ومن ثم الحروب الصليبية التي انطلقت شرارتها من فرنسا.  هذه الرواسب التي كرست الخوف من الإسلام والقلق من سرعة انتشاره والرهاب من الطاقة الكامنة في تعاليمه والقادرة على بعث الروح في أتباعه للنهضة من جديد، الأمر الذي يؤرق فرنسا وغيرها من الدول التي يقوم كيانها ونهضتها على استعمار الدول الأخرى عسكريًا أو سياسيًا أو اقتصاديًا أو ثقافيًا وإعاقة تطورها وتفكيكها من أجل تسهيل السيطرة على قرارها ونهب ثرواتها.

كشفت ويكيليكس عن وثيقة سرية للسفير الأميركي في فرنسا تشارلز ريفكين أرسلها إلى خارجية بلاده يوضح فيها بعضًا من ممارسات الإقصاء التي تمارسها الحكومة الفرنسية ضد مسلمي فرنسا والذي قد يؤدي حسب السفير الأميركي إلى انقسام وضعف واضطرابات في المجتمع الفرنسي، وذلك على خلفية الانتشار السريع للإسلام في فرنسا حيث بينت الوثيقة أن 3.5 % من العسكر الفرنسيين بمن فيهم الضباط قد اعتنقوا الإسلام مؤخرًا.

لا أدري لماذا قفز ذهني مباشرة إلى إيران عند سماع خبر منع المحجبات في فرنسا من ممارسة كرة القدم؟؟!!

في فرنسا هناك تدرج واضح في محاصرة الثقافة الإسلامية وإقصاء المسلمين والتضييق على المحجبات يقابله في إيران تدرج واضح في إقصاء غير المسلمين الشيعة والتضييق على غير المحجبات وصولاً إلى جعل الحجاب إلزاميًا لجميع النساء في إيران خارج البيوت بقانون حكومي نافذ. 

تصدر القوانين في كلا البلدين عن عقلية إقصائية واحدة، وتمهد لمشروع واحد توسعي استعماري يسعى إلى السيطرة على مقدرات وقرارات دول أخرى. البلاد التي تتغنى بالليبرالية وتدعي أنها أم الحريات يضيق صدرها أمام حرية الفتاة المسلمة بوضع الحجاب على رأسها وممارسة حقوقها في الجامعة والإعلام والبرلمان والسياسة والرياضة وهي محجبة. والبلاد التي تتغنى بحب ونهج آل بيت النبي وتدعي أنها قامت بثورة إسلامية (من أهم ثوابته أن لا إكراه في الدين) يضيق صدرها أمام حرية النساء في إيران بممارسة حياتهن في الجامعة والسياسة والإعلام والرياضة دون حجاب لا يقتنعن به أو لا يرغبن بوضعه. هذا على مستوى الداخل، أما على مستوى السياسة الخارجية فكلاهما له مشروع استعماري توسعي بغيض يهدف إلى استغلال شعوب أخرى واستعبادها ونهب ثروات بلادها، وكلاهما يستحضر التاريخ والأيديولوجيا كذراع مهم من أذرع المشروع الاستعماري الذي يسعى لتنفيذه. والحقيقة أن المشروع الخارجي هو السبب الكامن والدافع الأهم لهذا التضييق الداخلي على المخالفين، ذلك أن التعدد الثقافي والديني والحرية الحقيقية في الداخل يمكن أن تعرقل المشروع الاستعماري التوسعي في الخارج خاصة عندما تعطي الحرية في الداخل هامشًا واسعًا من الحركة والرأي الحر للشريحة المرتبطة ثقافيًا أو عاطفيًا أو تاريخيًا مع المجتمعات المستهدفة بالمخطط الاستعماري. 

من المنطقي وجود ضوابط عامة تمنع الاستفزاز المتكرر لثقافة الشريحة الأكبر لمجتمع ما، لكن من غير المنطقي ملاحقة التفاصيل ومراقبة المختلفين في كل حركة وسلوك. من غير المنطقي إجبار كل شرائح المجتمع على أسلوب معين في اللباس أو الخطاب أو التعامل. يحصل ذلك عندما يكون المجتمع مغلقًا والثقافة العامة ضحلة أو عندما يضمر أصحاب القرار مشروعًا يتنافى نجاحه مع وجود ثقافة مفتوحة وحرية رأي وتسامح مع الآخر. لا بد من وجود هامش كبير من الحرية الشخصية على مستوى الدولة يتيح للمختلفين العيش بكرامة مع مراعاة الذوق العام للمجتمع. يمكن أن يستثنى من ذلك مناطق خاصة محدودة تشكل مركز الدين أو الثقافة لمجموعة كبيرة من سكان العالم مثل الفاتيكان ومكة المكرمة والمدينة المنورة دون أن تمتد القوانين الخاصة بتلك المناطق إلى كامل الدولة. وعلى هذا يمكن للإنسان أن يقترح اختيار مدينة في فرنسا تعتبرها الدولة عاصمة العَلمانية وراعية الليبرالية على المقاس الغربي اليميني تفرض فيها مثل هذه القوانين المتطرفة على من يرغب السكن فيها، أما أن ينسحب ذلك على دولة بأكملها يشكل الإسلام فيها الدين الثاني من حيث العدد فهذا دون شك مجحف ويخفي وراءه أحقادًا تاريخية ومشروعًا توسعيًا في بلد تدعي رعاية الحريات العامة والخاصة. ويمكن اقتراح مدينة في إيران (قم مثلاً) تطبق فيها القوانين الدينية الشيعية ويمنع فيها غيرهم من مخالفة طقوسهم الاجتماعية أو الدينية، أما أن ينسحب ذلك على الدولة بأكملها فهذا أيضًا مجحف ويخفي وراءه رواسب تاريخية وأيديولوجية ومشروعًا توسعيًا. بالطبع هذا الطرح سيبدو ساذجًا جدًا في ميزان السياسة عندما نفهم طبيعة الدولتين والثقافة السياسية العميقة والمشاريع التوسعية التي تسعى كلا الدولتين لتحقيقها.

مرة أخرى لا أدري لماذا انتقل الذهن مباشرة من باريس إلى طهران عند سماع خبر منع المحجبات من ممارسة كرة القدم في فرنسا. ربما يكون للطائرة التي نقلت بذور الثورة "الإسلامية" من باريس إلى طهران علاقة بذلك. هل حملت الطائرة مع الخميني أفكارًا أو مشاريع أو مخططات؟؟؟ ربما.

 

 

 د – معتز محمد زين

كاتب سوري

 

Whatsapp