كنت أمشي في السوق فعانقني شخص من الخلف، عانقني بقوة ورمى بثقله عليَّ، استدرت فكانت طفلتي، أخذتها خمسة دقائق جميلة بين ذراعيَّ وعرضت عليها أن نذهب إلى السينما، لكنها رفضت لأنها مازالت في صدمة من آخر فلمٍ حَضرتهُ، قالت كان الفلم يحكي قصة فتاة جميلة جداً وجذابة لدرجة أن الجميع الذين حضروا الفلم أحبوها ودافعوا عنها، وحين قال الطبيب أنها بحاجة لمتبرّع نهض الجميع لأجلها، تقول طفلتي أن البطلة كانت رائعة جعلتنا نُحبها وماتت في نهاية الفلم ليبقى ذلك الشاب الذي قدم من قرية بعيدة بغية العمل وحيداً كل الحياة، الشاب الذي أكتشف الحب معها فصارت حبه الأول ليرسل صورتها لأمه وقد كتب تحتها:
أنا سعيد يا أمي لأنني عثرت في هذه المدينة على عمل وعلى نسخة جميلة منك.
لكنها ماتت وتركته وحيداً.
طفلتي محقّة فنحن سرعان ما نبكي أمام الشاشات لأننا نرى حياتنا أو أجزاء منها في كل فلم، نحن مصابون بمرض التعلّق آفة المنتكسين، نتعلق بالأمكنة، بالشوارع بالمدن، والكثير من الأشياء بشكل لا نتصور فيه العيش من دونها، لكننا نصل في النهاية إلى تلك النقطة وهي موت تلك الأشياء والأمكنة كما ماتت تلك الفتاة الجذابة والتي أحبها الجميع.
ذات مَّرة فكَّرت بحلٍ جذريٍ لحياتي وقلت عليَّ أن أضع عدة نقاط ارتكاز وأولها كانت قصة التعلق بالأشياء والأشخاص، فقلت يجب أن أتعامل مع كل الأشياء الجميلة على أساس واحد وهو أنها ليست لي، وأنَّ الأشخاص الذين سأحبهم وسأتعلق بالحياة لأجلهم هم في النهاية أيضاً ماضون، وأنه لا شيء يبقى في النهاية سوى الذكريات.
بالصدفة وجدت نفسي في محل لصناعة الوشم (تاتو) فدخلت وجلست وحين جاءت الفتاة قلت لها:
أريد وشماً
سألتني عن الشكل، لكنني لا أعرف شيئاً عن الشكل الذي سأختاره وشماً فقلت لها: - أي شيء.. أيّ شيء يدلّ على أن الأنثى كانت هنا.. فجسدي ممتلئ بالأوشام التي لا يراها أحد.. كل عابرٍ ترك وشماً ومضى.. ما يهمني الآن هو السرعة فقط كي لا أشعر بألم وخز الأبر.
لكن الفتاة ابتسمت وقالت:
نحن لا نستخدم الأبر ولن تشعر بأي ألم.. ستفتح عينيك وترى وشماً لن يفارقك كل الحياة.
في البيت عندي مشكلة وأنا أبحث عن حل لها منذ سنين، وهي مشكلتي مع النوم فقررت ذات ليلة أن أنام تحت السرير وشعرت بالأمان، تذكّرت طفولتي في مدينة البصرة حين اندلعت حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران وكنت أختبئ أثناء كل غارة تحت السرير معتقداً حينها أن الذين ماتوا في الحرب لم تكن لديهم أسرّة يختبئون تحتها.
ومشكلتي الثانية مع الضوء وهي أنني في آخر الليل أنتظر أحداً ما ليأتي ويطفئ الضوء لكن هذا لم يحدث، لا أحد فعلها وأتى فيبقى الضوء طوال الليل متوهِّجاً.
قال لي أحدهم ذات مرة إنَّ الوحدة أبشع سجن عرفته الحياة وأن الذين يغادرون هذا السجن ينصدمون بالواقع فيعودون لسجنهم أو يلجؤون لإعادة تأهيل.
حاولت عدة مرات أن أغادر سجني لكنني عدت إليه بصيد وفير من الأوشام فكلما أنظر في المرآة أرى نقوشهم العميقة في روحي، فانقسمت من الداخل لشخصين الأول يحبّ والثاني يكره، الأول يريد العودة والثاني يمنعه، الأول يرى أن الحياة لا زالت جميلة والثاني يراها خاوية كصحراء.
الأول يرى الابتسامة في وجوه النساء والثاني يرى الحزن والخيبات خلفها، الأول يحاول أن يخطو والثاني يشدُّ الخطوة نحو الخلف، الأول يرفع السماعة ليتصل والثاني يضغط على زر إنهاء الاتصال.
الأول يكتب لها الرسائل والثاني يمحوها، الأول يريد أن يشرب البيرة والثاني يريد القهوة، الأول يرسم طريقاً والثاني يرمي المحبرة فوقه.
الأول يريد أن يسمع الموسيقى والثاني يريد أن يكسر الآلة، الأول يشتري وردة والثاني يرميها من النافذة.
الأول يحكي مع نفسه والثاني لا يفهم عليه، الأول يريد أن يفهم والثاني لا يريد،
الأول يريد الذهاب إلى السينما والثاني يريد النوم لأنه يعرف أن هناك فتاة جميلة وجذابة سيقع الجميع في حبها وستموت في نهاية الفلم.
محمد سليمان زادة
شاعر وكاتب سوري