الأكتع


 

على بعد أمتار قليلة لمحته من نافذة الحافلة التي تقبع في قلب المجمع الكبير، كان جالساً بظل سيارة نقل مرسيدس بيضاء، يضع التبغ في لفافات رقيقة بعد أن يلفها بطريقة محكمة ويضعها في علبة نحاسية صغيرة، هو بشحمه ولحمه كما تركنا آخر مرة منذ عشر سنوات، بعينه المضروبة وشعره الأشيب الكث، وملابسه الرثة والتي تشعرك بأنها لم تغادر جسده منذ زمن بعيد.

يسحب مقعده الموضوع  أمامه إلى حجره كلما شعر بخطوات تقترب منه، وكأن الأيام لم تأتِ عليه فمازال يحتفظ بحيوية رجل ستيني، أذكر آخر مرة جاء فيها إلى قريتنا كان يحمل مذياعاً صغيراً، تحايلت عليه كثيراً كي يعطيني إياه ولكنه أبى، أخبرتني أمي يومها وهي تراني أبكي بحرقة بأن جميع أشيائه التي يأتي بها إلينا  مسروقة، ففي كل مرة  كان يحمل في مقعده الصغير ألعاب أطفال وبعض السكاكر المكشوفة، يوزعها علينا كلا حسب ميوله، هممت بأن أذهب إليه قبل أن أقوم بإلقاء نظرة خاطفة على مقاعد الحافلة التي باتت شبه ممتلئة، صاح الكونترول: 

جامعة، السوق، البلد، صعدت امرأة تحمل على حجرها طفلا، يتبعها رجل يبدو أنه زوجها، أشار لي السائق الذي بدا يستعد للانطلاق بأن أنتقل إلى المقعد الخلفي حيث حجبت الرؤية تماماً عني، انطلقت الحافلة والذكريات تتقاذفني إلى أيام خلت، أيام كان عمري عشر سنوات، حين قدم ذات مرة إلى زيارة ابنة أخيه التي تسكن بجوارنا، أذكر أننا خرجنا في تلك الليلة الشديدة الأنواء على صوته، وهو يسب ويلعن مما جعل جميع من بالحي يخرجون على صراخه، علمنا حينها أن أقاربه قاموا بنزع ملابسه التي تكاد تلتصق بجسده بالقوة، ثم استبدالها بملابس نظيفة، مما دعا به أن يستقل أول حافلة في اليوم التالي تتجه إلى بلدته.

كانت هذه هي المرة الأخيرة التي شاهدته فيها، لم يكن للأكتع عائلة، كان له طفلاً وحيداً توفي عندما كان طفلا صغيراً، هربت على إثره زوجته ولم تعد، سمعت أنه كان يسيء معاملتها ويضربها ضرباً مبرحاً، إذن ها هو عائد اليوم بعد كل هذا الغياب، سوف يفرح الولد ذو الساقين النحيلتين القذرتين، وسوف يعيد على مسامعي ما كان يهذي به قبل عشرة أعوام، كنت أشعر بالغيرة تأكل أضلعي حين كان يخبرني بفيه الذي يزدرد الطعام وعينيه الجاحظتين:

  •  سوف نصبح أغنياء، حين يموت الأكتع سوف نترك القرية ونشتري بيتاً كبيراً في مدينة إربد. 

أمي تقول: إنه يمتلك الكثير من الأراضي والعقارات،  سوف يورثنا منها، غير أن صاحب الساقين النحيلتين أصبح الآن يرتدي بنطلون جينز نظيفاً، ويضع  مصفف الشعر، ولديه أصدقاء وصديقات كثر في الجامعة، وسوف يخبرهم عن إرثه المنتظر وستتهافت عليه الصديقات والأصدقاء أكثر وأكثر، وقفت الحافلة أمام بوابة الجامعة، ولا أذكر يومها أنني وعيت شيئاً مما قاله أساتذتي في ذلك اليوم،  كانت رغبتي تسبق قدميّ، وغيظي يسبق لهفتي، هل عاد اليوم ليقسم الميراث على الجميع، ألقيت بكتبي في إحدى زوايا حجرة الجلوس وقبل أن أخلع ملابسي بدأت أبحث عن أمي في حجرات المنزل ولم أجدها، كانت تجلس تحت ظل شجرة الصنوبر تمسك بيدها سكيناً تعالج به جلد ماعز كانت قد طلبته بالأمس من أحد الرعاة بأن يذبحها بعد أن أحضرها لنا من المرعى شبه حية وقال :

  • سوف تموت إن لم تقومي بذبحها الآن.

 وقفت أمامها بأنفاس متقطعة ودون أن تنظر إليًّ قلت لها:

  •  أمي أتذكرين الأكتع، ذاك الذي كان يأتي إلى قريتنا قبل عشر سنوات؟!،

         لقد رأيته اليوم في المجمع الكبير، كان يضع لفافات التبغ في علبته النحاسية، وبجواره مقعده القديم ودون أن تجيب أو ألحظ الدهشة التي أنتظرها منها: 

  • ألم يأت، لقد رأيته ألا تصدقينني؟!

  • بلى أصدقك.

  • هل رأيته؟!

وهي مازالت عاكفة على معالجة الجلد بالسكين: 

  • الأكتع يا ولدي مات منذ زمن بعيد في حادثة حريق مشبوهة، اتهم بها اقرباؤه بعد أن قاموا بالحجر على جميع ممتلكاته.

قلت بابتسامة لم أستطع كتمانها:

  • الأكتع مات! ..هذا يعني أنه لن يورث.. شكراً يا أمي..

 

<meta charset="utf-8" />

 آسيا الطعامنة

كاتبة أردنية

Whatsapp