أيام عزيزة على النفس تلك التي تأتي مع شهر رمضان من كل عام، الروح تهفو إلى هذه الأيام، وترنو إليها من عامٍ إلى عام، لما فيها من سكينة للنفس، واطمئنان للقلب، وراحة للبدن، حيث السباق على الطاعات أيضاً أملًا في رضا الخالق سبحانه وتعالى.
شهر رمضان فرصة للإنابة إلى الله، فيه نمتنع عن الحلال- إسلامياً- في أيام معدودات، ونكبح جماح النفس للارتقاء بها في مراتب الطاعات، وكف الجوارح والقلوب عن كل ما يغضب الله، إنها فرصة لشحن بطارية الإيمان، وشحذ الهمم بالصيام وفضائله، والانفاق في كل وجوه الخير، من عطف على المساكين، وإسعاد للفقراء، وإدخال الفرحة على اليتامى، ليتبدل الحال من التراخي والتيه إلى حال الطائعين النافعين للمجتمع فيعم الخير على العباد.
كما أن للصيام في شهر رمضان الكريم فوائد متعددة، حيث تشمل مختلف أعضاء الجسم بالكامل، ومن أبرز المشاكل الصحية التي يعالجها الصيام هي السمنة، فهو الوسيلة الفعالة لإنقاص الوزن.
فالصيام يلعب دوراً كبيراً في تحقيق العافية بشكل عام إلى جانب السيطرة على الأمراض الشائعة والأمراض الخطيرة، فقد يساعد في السيطرة على ارتفاع ضغط الدم ومرض السكري وأمراض القلب والأوعية الدموية أيضاً.
فكم كنا، قبل الثورة وهموم الغربة القسرية، دائماً نسعى في رمضان أن لا يكون بيننا أو في مجتمعنا جائع أو محتاج قدر المستطاع، وأنه على أهل كل منطقة أو قرية أو نجع أو مدينة أن يقوم أغنياؤها بحوائج فقرائها، فإن الله (عز وجل) قسم أقوات الفقراء في أموال الأغنياء، فغنيُ اليوم قد يكون فقيرَ الغد، وفقيرَ اليوم قد يكون غني الغد، وهذه سنة من سنن الحياة.
كما أن الأجواء التي يفتقدها أحدنا في شهر رمضان خلال تواجده في الغربة والشتات، هي غالباً افتقاده لعائلته مجتمعةً أو أفراداً، وكذلك أجواء التزاور بعد الإفطار، حيث إنها من أبرز العادات التي افتقدناها في هذا الشهر الفضيل مع الوباء وجائحة كورونا.
فقد كان رمضان طقساً روحياً ممزوجاً بوجدانية عالية خاصة مع الإفطار الجماعي في دمشق وأريافها عامةً، وذلك برمضانيّات فيها لذّة العبادة، وفرحة الإفطار، وأوصاف بديعة للطعام والشراب، ولعل رمضانيات جميع الناس هكذا، ولكنّه في دمشق الشّام أعجب بالألفة الاجتماعية، من خلال ما كان يسمى "خيم الرحمن" التي تنتشر أيضاً في كثير من المدن الإسلاميّة الكبرى، وهذه مأثرة تاريخية قديمة لا صلة لها البتة بنظام النهب والجريمة الأسدي وادعاءاته حول هذه الخيم، بل هي من الطقوس القديمة جداً، ففي أثناء الحكم المملوكي، وقبيل الفترة العثمانية بـ 90 عاماً، وحسب وصف «ابن بطوطة» الرحالة المغربي الأشهر، ترى دمشق التي غادرت نشوة المدينة العاصمة مبكّراً، واستعاضت عن ذلك بالمدينة التي جمعت أبعاداً متشابكة، فهي مدينة الأولياء والصناعة المتقنة والمزيج الديني المتسامح؛ وحتى حين يصادف الطاعون وجود «ابن بطوطة» فيها، يطلب الحاكم أن يصوم الناس ثلاثة أيام، بعدها يأتي المسلمون حاملين المصاحف والنصارى حاملين الأناجيل، وكذلك اليهود حاملين للتوراة، ولكنها في رمضان الذي يطلق عليه «ابن بطوطة» وصف المعظّم، ثمة طبقة واحدة تمثل الجميع موزعين على موائد، تجتمع معاً عند الفطور فلا يوجد من يفطر وحده البتّة، إنها دمشق قبل سبعمائة عام.
كما أنه يسجل طقسٌ مشابه لأهلنا في مدينة الخليل الفلسطينية وهم تحت حراب الاحتلال، فيحاول الفلسطينيون بشتى السبل وضع حد لاستشراء الفقر فيما بينهم بعد أن بلغ مبلغه, نتيجة استمرار الحصار والإجراءات القمعية الإسرائيلية، ويبذل الأهالي جهداً كبيراً لرفع درجة التكاتف والتعاون باعتبارها الوسيلة الشائعة لمساعدة العائلات الأكثر حاجة خاصة بعد سلسلة المضايقات التي تعرضت لها الجمعيات الخيرية.
ففي هذه المدينة أخذ السكان على أنفسهم عهداً، غير مكتوب، بأن يدفنوا الفقر وألا يكون بينهم جائع، من خلال توفير «تكية إبراهيم» الموروثة منذ آلاف السنين, وجبات ساخنة للفقراء والمساكين من مدينة الخليل والقرى المجاورة لها طوال أيام السنة وتزداد خلال شهر رمضان الكريم.
إنه رمضان الخير الذي تحول مع عصابة النهب والجريمة الأسدية إلى حرمان وتهجير وقتل، إذ إن أغلب السوريين يستقبلون رمضان لهذا العام بأسعار جنونية لا ترحم، وببطون خاوية وموائد فارغة باستثناء ’مجدرة‘ و’شورَبة‘ وفي أحسن حال ’جظ مظ‘، إضافة لـ’المعكرونة‘، لأن أغلبهم يرزح تحت خط الفقر وفق تقارير صادرة عن الأمم المتحدة.
نرجو الله أن يحل علينا رمضان القادم وقد تخلصت سورية من هذه الطغمة الدخيلة والفاشية، وتعود للمشاركة في مسيرة الحضارة والتقدم، ولتعيش أجواء الألفـة والدعـة كما كانت تاريخياً.
عبد الباسط حمودة
كاتب سورية