من أجمل ما قرأت في توصيف هذا الشهر الكريم على إحدى الصفحات كانت تلك العبارات المفعمة بالحرص والموعظة والتشبيه البليغ: " شهر رمضان بين أحد عشر شهرأ كيوسف بين أحد عشر كوكباً، فلا تقتلوه ولا تلقوه في الجبّ ولا تبيعوه بثمن بخس" .

إنّه شهر في السنة وكأنه الفرصة الإلهية الممنوحة للبشر ليقوموا بعملية مراجعة شاملة لما ارتكبوه خلال العام من إهمال في العبادات وللعلاقات الإجتماعية والتعاضد ومساعدة الغير، حيث يتمّ في هذا الشهر إعادة شحذ الهمم الإيمانية التي تراخت طوال الشهور الماضية أشبه ببطارية تكاد أن تكون قد فرغت شحنتها فيأتي رمضان ليشحنها من جديد، تلك الجرعات الإيمانية التي تتجلى بصور مختلفة على صعيد الواقع فتزداد عرى المودة وصلة الرحم والتسامح والبذل فتظهر صورة الإسلام الحقيقي ورسالته الإنسانية السامية، رغم ما يتعرّض له من حملات مسعورة وحرب بلا هوادة من قبل أعداء الإنسانية لتشويهه وإضعافه والحدّ من انتشاره .

ما يميّز الإسلام عن بقية الشرائع أنّه يزداد رسوخاً في القلوب كلّما اشتدّت عليه الحرب، فمنذ أن انهار الإتحاد السوفيتي وتراجعت الشيوعية بشكل كبير وانحسر الفكر الماركسي اللينيني، واعتبرت الرأسمالية نفسها أنّها انتصرت ولم يبق أمامها سوى الإسلام لتقضي عليه كما توقع ذلك ( فوكو ياما) في كتابه " صراع الحضارات" ، ومنذ تسعينيات القرن الماضي بدأت محاولات الغرب في التضييق على الإسلام والعمل حثيثاً على إلصاق تهمة الإرهاب به من أجل محاربته بشكل علني واستباحة منطقتنا العربية التي هي الحاضنة الطبيعية للإسلام على اختلاف الملل والإثنيات وحتى الأديان الأخرى، فثقافة المنطقة مستمدّة من الإسلام والعلاقات الاجتماعية ناظمها الفعلي هو الإسلام.

وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 ازدادت الحرب شراسة ووقاحة، إلى أن وصل بهم الأمر إلى تجييش جحافلهم لغزو بلادنا بحجة محاربة " القاعدة" ومن ثم " داعش" رغم افتضاح أمر الأخيرة بأنها صنيعتهم. 

لكن المعادلة الذهبية التي لم تحد يوماً هي أنّ الإسلام يزداد صلابة كلّما تعرّض لهجمة من الأعداء، بل ويزداد اتساعاً حتى في عقر دار الغرب، وهذه من نعم الله الكثيرة، ليأتي كلّ عام شهر الخير والبركة ويعزّز من النفحة الإيمانية التي تتسلل إلى صدور المسلمين فينعكس ذلك على سلوكيتهم طوال هذا الشهر، فتعمّ بين أوساط المجتمع تلك الحالة الرائعة من التراحم والشعور بمتعة البذل والعطاء وتقديم المساعدة للمحتاجين، وخاصة في هذه المحنة العصيبة التي تعصف بالسوريين إن كان في الداخل المحتلّ أو الداخل المحرّر حيث المخيمات الممتدّة على طول الشريط الحدودي مع تركيا، وكذلك اللاجئين في دول الجوار.

صور ناصعة كثيرة جداً من التكاتف والتعاون تخرج بعضها إلى العلن وكثير منها يتمّ بعيداً عن الإعلام، فالجمعيات الخيرية تتحوّل إلى خلية نحل في جمع التبرعات وتوزيعها على المحتاجين على شكل سلل غذائية أو مبالغ مالية تعين الأسر المنكوبة على مواجهة ظروف الحياة القاسية، وتنهال التحويلات المالية من اللاجئين في أوروبا إلى أهلهم في سورية رغم تواضع تلك المبالغ التي يقتطعها اللاجئون من معيشتهم لمساعدة من تبقّوا تحت سطوة نظام المافيا الأسدي والجوع والغلاء مجتمعين.

لعلّي أذكر المبادرات الفردية كشكل من أوضح أشكال التآزر والإكتراث والتي تعكس جلياً ثقافة المجتمع المسلم، ومن هذه المبادرات الفردية النبيلة مبادرة رجل في السبعين من العمر " محمد يلماز" الذي جمع 376 سلة غذائية من مدينة (دنزلي) التركية لمساعدة إخوانه في الشمال السوري، وقد حملها بسيارته " فان" وتوجه بها إلى الحدود السورية لإيصالها إلى المحتاجين وقد تجشّم عناء السفر لمسافة مئات الكيلو مترات وهو صائم. وهناك مبادرة جميلة متعارف عليها هنا في تركيا وشائعة وهي إقدام أهل الخير من الميسورين على التوجه إلى محال البقالة في الأحياء وتسديد قيمة ما هو مسجّل في دفتر الديون كاملاً ومن ثم تمزيق الدفتر أمام أعين المارة.

هناك على الجانب الآخر نفوساً مريضة لا تبالي بمشاعر الناس فتظهر للعلن إسرافها في المشتريات وفي إعداد السفر الرمضانية بشكل مبالغ فيه، ولكن ما يثلج الصدر هو نظرات الإزدراء التي صارت تلاحقهم، وتعلو الإنتقادات على صفحات التواصل الإجتماعي التي تحثّ على عدم نشر الموائد المبالغ فيها مراعاة لمشاعر أخوتهم الذين لا قدرة مالية لديهم، وبالفعل ما يميّز رمضان الحالي هو غياب أي شكل من أشكال الإسراف على صفحات الفيس بوك، وأصبحت تحلّ محل تلك الصور المليئة بما لذّ وطاب صور أخرى من الأدعية والقصص التاريخية المليئة بالمواعظ  وبالقناعة والتقشّف والتي تدعو للصبر وتبشّر بالفرج القريب.

ياسر الحسيني

كاتب سوري