موت بمثابة الولادة


                                   

هل هي حكمةٌ يضمرها الموت في أن يترجّل بعض فرسان الثورة كل حين، وأن يخلوا أماكنهم لآخرين من أخوتهم لا يقلون فروسيّة وشرفاً وبطولة عنهم، أم هي حكمة الثورة في اقتناص الحضور من الغياب واستمطار الغيث من غيمة الروح الصاعدة إلى السماء، أم لعلّها فطنة الروح الثائرة وقد أدركت ميعاد الرحيل فأبت إلا وأن ترمي سهمها المشتعل فيما استنقع من عشب على طريق الجلجلة وأرضٍ طاهرة لا تعترف إلاّ بالأشجار العالية؟؟؟

لا وجع يشبه وجع السوريين في تغريبتهم الموحشة، وفي المخاض العسير لملحمة الانبعاث بحثاً عن الذات والوجود المستحقّ والهويّة الإنسانية والوطنية. إذ لا تكاد تشرق شمس في تقويم سنيّهم العجاف دون انكسارٍ أو خيبة أو غياب، وها هو جسد ثورتهم يستقبل طعنة أخرى بيد الموت، وبسيف كورونا الذي غيّب مناضلاً وطنياً حرّاً، وقامة سياسية وثقافيّة امتدّ تاريخها في مقارعة نظام الإجرام الأسديّ لأكثر من خمسين عاماً.

عرفت المناضل الراحل ميشيل كيلو بدايات الحراك المدني فيما يسمى ربيع دمشق وتعرفت إليه عن قرب سنة 2003 في ردهات المحكمة العسكرية في حلب التي اكتظّ بها حضور سوريّا الحقيقية الرافضة للاستبداد، ممثلة بأحرارها الوطنيين الذين جاؤوا من مدنها ومناطقها كافة لمؤازرة ودعم المحالين الأربعة عشر للمحاكمة بسبب حضورهم نشاط ثقافيّ معارض لتوجهات نظام الإجرام الأسديّ، حيث شكلت هذه "المحاكمة" آنئذٍ، بما لازمها ورافقها من مرافعات ومظاهرات ونشاطات سياسية معارضة، حدثاً كبيراً على صعيد النضال في سبيل التغيير السلمي للنظام، وبمرور الوقت والأحداث التي تلت، ثمّ بعد قيام الثورة أسفر هذا الرجل عن ثقافة وفكر إنسانيين زاخرين، وعن معرفة ورؤية وطنية ثورية جامعة، ولعلّ أهمّ النقاط المحورية التي قد تشكل مرجعاً للبحث ودليلاً للعمل الوطنيّ وصولاً للتغيير المنشود، هي ما تضمنته وصية الراحل التي ختم بها حياته  حيث تبين بوضوح أسباب الفشل وكيفية المعالجة، وطريق الخلاص باتجاه تحقيق غايات الثورة وأهدافها. 

لا وقت لدى السوري المنكوب الطاعن في ألمه لكي يمارس طقوس حزنه ولا ليقف على أطلال ماضيه وخرائب وطنه ليندب وينوح ويذرف الدمع، فبالرغم من المصائب والنوائب الكبرى التي حلّت به إلاّ أنّ الحزن السوريّ مؤجل وكذلك الفرح، ولا وقت لتبديده في إلقاء المسؤوليات وتبادل التهم، فالآن أوان العمل والجميع مسؤول أمام المهام والأعباء التي تنتظر الوطنيين المخلصين لاستدراك ما فات، ولاستكمال مشروع الثورة السورية العظيمة لانتزاع الحرية من براثن الطغاة والمجرمين، ولاستعادة إنسانية الإنسان وكرامته وتحقيق متطلبات العدالة المغيّبة.

لا أحد ولا شيء يمكنه أن يهزم إرادة السوري. حتى الموت لن يكون بمقدوره أن يغتال إرادة أمّة أقسمت على الانتصار للحياة، قد يخطف الموت كثيراً من المناضلين لكنّ راية الحرية لا تسقط وكذلك عزيمة المحاربين على جبهات البطولة والشرف لا تفنى، يستطيع الموت أن يذكي نار القهر في قلوب المستضعفين وأن يلهب مشاعر الغضب في صدورهم لكنّه إذ يفعل فإنّه يدفع بهم إلى التصميم على إلحاق الهزيمة بالمستبدّ، والتفكير والبحث في أسباب تأخّر النصر، وأن يتوسّلوا طريق الخلاص بالإخلاص وبمزيدٍ من الثقة والإيمان. 

الحياة الحرّة الكريمة وعد وعهد قطعه الثوار وباركته السماء، ماذا لو حولنا خسارتنا بالموت إلى انتصار للحياة وعمل صادق لتحقيق الحلم الجامع للسوريين بوطن حر وكريم يسوده العدل، ماذا لو توحدت إراداتنا وجهودنا حول مشروع وطنيّ وعقدٍ اجتماعيّ يحفظ حقوق السوريين ويحقق رغباتهم جميعاً بوطن حرّ تسوده العدالة والقيم والمبادئ الإنسانية السامية، ماذا لو قدّمنا مصلحة الوطن الثابتة على مصالحنا الذاتية المتحولة، أليس هذا ما قصده الراحل ميشيل كيلو في وصيّته إلينا، أليس العمل بما تقتضيه رغبة الراحل وطلباته المحقة هو استمرار لمسيرته وتخليد لذكراه، وتكريم مستحق لنضاله وتضحياته.

كثيرة هي الوصايا والدروس والعبر التي ينبغي الالتفات إليها والتوقف عندها، والتعلم منها لتجاوز واقع مؤلم عنوانه الفشل، فهل نحن مستعدّون؟؟    

 

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي

Whatsapp