تأمُّلات في شهر الصِّيام


 

إذا كان الصيام كُتب علينا لكي نستشعر الألم الذي يعيشه الفقراء من الحرمان والفاقة، فلماذا عليّ الصيام وأنا فقير وأعيش الحرمان على مدار العام كله؟!

وإذا كان الصيام كُتب علينا لكي نكتسب فوائد صحيّة، فلماذا عليّ أن أصوم وأنا بحالة صحيّة جيِّدة؟!

هذه التّعاليل تكثر في برامج وندوات نشاهدها خلال شهر رمضان على شاشات التلفاز ومواقع التواصل، وكأننا نريد أن نجد تبريراً لهذا الحكم الربّاني لكي يستسيغه عقلنا المحدود في إطار السببية والنتيجة والغائية، بينما يكون الحكم الألهي فوق هذه المحدّدات التي تؤطّر عقولنا لذلك علينا أن ندرك أنَّ الإيمان بالله هو أصل التعليل لعلَّةٍ أي حكمٍ، فإذا قيل لك لماذا تصوم فلا تدخل في متاهة الأمور الصحيّة والتّضامن مع الفقير لأنّك قد تواجَهُ بإجابات كالتي أسلفنا ذكرها. 

ولا يُفهم من كلامنا هذا أنّنا لا نريد فهمَ أبعاد هذا الحكم أو ذاك، ولكن علينا أن نكون أكثر وعياً بحقيقة الأحكام الربّانية التي لن تفهم بعيداً عن وعينا بالإيمان الكلي وما يترتب عليه من التزام بالممارسة، فعندما تؤمن بالحقيقة الكبرى، وهي وجود الخالق، تصبح الأحكام الصّادرة عنه التزامات مفروضة وتُفهم الغاية منها بعد تطبيقها وليس قبل ذلك، فإنّك لن تدرك معنى الصّيام قبل أن تصوم، كما أنك لن تعرف طعم العسل قبل أن تتذوَّقه، ولن تعرف نشوة الاتصال بالخالق قبل أن تصلّي، ففهم العلّة من الحكم الإلهي تكون بعد القيام به، ولذلك جاء) لعلكم تتقون (بعد) كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم (...

لقد اصطفى الله هذا الشّهر من بقية شهور السنة ليكون (المثال) عن بقيّة الأيام الأخرى، فالاصطفاء الربّاني يختلف عن الاصطفاء بالمعنى البشري فهو يأتي بمعنى التّكليف ليكون مثالاً لغيره وليس بمعنى التّمييز كما نفهم الاصطفاء نحن، فالأماكن والأزمان والأشخاص اصطفى منها الله أجزاء لتكون مثالاً يحتذى مثل المساجد بالنّسبة للأماكن، وشهر رمضان بالنّسبة للزّمن، والرسل بالنّسبة للأشخاص، فالأنبياء بشر لامسوا الكمال المنشود وجعلوا فكرة الكمال أمر متعيّن في الواقع ولولا وجودهم لبقيت فكرة الكمال طوباوية خيالية، فهم حجَّة علينا كي نكون أشباههم، والمسجد أيضاً يجسد فكرة المجتمع المثالي في حقيقة متعيّنة على أرض الواقع من خلال فسحة مكانية محددة ترسم نظماً اجتماعية متكاملة من خلال اصطفاف الناس خلف إمام من المفترض أن يكون أعلمهم، وبدون رجال أمن ينظمون هذا الاصطفاف فكل فرد يعرف واجبه، وهناك صندوق لجمع الأموال للفقراء دون حراسة عليه، وأيضاً المحافظة على ممتلكات المسجد مهمة الجميع دون وجود لجهات مختصة...

وفي الصَّوم أيضاً جانب مشابه بلا شك فقد اعتبر المسلمون الصَّومَ خلال شهر رمضان مظهراً لروح الجماعة ولذلك فإنّهم حسَّاسون لأيِّ انتهاك علني لهذا الواجب، فالصيام ليس مجرَّد مسألة إيمان وليس مجرَّد مسألة شخصية تخصُّ الفردَ وحده وإنما هو التزام اجتماعي، هذا التفسير للصّيام كشعيرة دينيّة غير مفهوم عند الأديان الأخرى. إن الصيام الإسلامي وحدةٌ تجمع بين التنسّك والسّعادة، بل وحتّى المتعة في حالات معيّنة، إنَّه أكثر الوسائل التعليمية طبيعية و قوة والتي وُضِعَت موضعَ الممارسة الإنسانية إلى يومنا هذا، فهو يمارَسُ في قصور الملوك وأكواخ الفلاحين، إنَّه شهرٌ من كلِّ عامٍ يُمارِسُ فيه المجتمع مثاليَّته المنشودة من الترفّع عن الماديّات التي تصبح ممنوعة وهي في الأصل مُباحة، ومن صَبْغِ المجتمع بأخلاقيات نفتقدها على مدار العام، ومن تحطيم لمقولة (اللا أستطع) من خلال فعل كلّ الأشياء التي كنّا نقول إنّنا لا نستطيع فعلها باستمرار كقراءة القرآن بشكل يوميٍّ والتصدق على الفقراء والتَّحلّي بمكارم الأخلاق وأيضاً ترك كلِّ الأفعال التي كنّا نقول نحن لا نستطيع تركها مثل الفواحش ولهو الحديث وغيرها..

إنّه شهر التّصعيد الإيماني إلى ذروته ليكون مثالاً لبقية الشّهور، فتخيّل معي حجم الإنسانية الممنوحة لنا في هذا الشّهر عندما تترك حاجاتك الماديّة من طعام وشراب وجنس مقابل السّعادة الروحيّة التي تشعر بها بمجرد أنّك تشعر برضى الخالق عنك، بل ليس فقط ترك الحاجات الماديّة وإنما دفع تلك الحاجات مما تملك للآخرين من خلال زكاة الفطر التي لا يُرفع صيامنا إلى السماء قبل إخراجها!

إنَّ هذا الشَّهر حجَّة علينا لأنَّه يُثْبِتُ لنا أنّه باستطاعتنا أن نكون مجتمعاً فاضلاً ونمارس الفضيلة في الواقع ونحقِّق المثاليّة الّتي يعتقد المادّيون أنها حبيسة الخيال...  

فمن خلال هذا الفهم للفروض والأحكام الإلهيّة وعندما نُنزِل هذا الفكر المثالي الذي جاء به القرآن كمنهجٍ للبشر ونمارسه كفضيلةٍ في شوارعنا، عندها فقط سنفهم لماذا أمرَ الله الملائكة بالسجود لآدم، وعندها أيضاً سندرك لماذا كنّا خيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاس.

 

محمَّد ياسين نعسان

كاتب سوري

Whatsapp