بعض بني جلدتنا يحب النَّصْب لا الرفع، وخاصة في الغربة يقول صديقي ويتابع:
مع أن هناك أربع حالاتٍ، يمكن أن يلجأ إليها المُغترب، من رفعِ قيم التسامح، وجرّ الآخرين للتعاون والتكافل، وجزمِ الأمور بأهمية ذلك جزماً حاسماّ، إلا أنه يكتفي بالنصب.
ولمَن امتهنَ النصب من نصّابينا، كما في النحْو، علامات أصلية تُميّزهم عن غيرهم، من فتحة ربانية فتح الله بها عليهم، وصارت لهم حسابات بنكية، وعلامات فرعية، كامتلاك عقارات وسيارات فارهة.
وللنصّابين أدوات، يُعرَفون بها، كأن تجدهم من ذوي اللحى الطويلة، يتاجرون بأموال اليتامى، والجمعيات الخيرية، أو ممّن يرتدون البدلة الرسمية، مع ربطة العنق، ويقدمون أنفسهم على أنهم (ليبراليون)، وليست لديهم مشكلة، بالتعاون مع الشيطان نفسِه، في سبيل الشهرة والمال، أو ممن ركبوا الثورة، وباعوا سلاحها، ليفتحوا مطاعم وشركات لهم في أصقاع الأرض.
قلت لصديقي: حوّلتَ كلامك درساً في النحْو والقواعد!!
فقال: ههه ... نترك النحو جانباً.
في الغربة تجد كل الجاليات الأخرى متعاونة ومتكافلة، ولهم نوادٍ واجتماعات، ويحيون مناسباتهم في مكان يضمهم جميعاً، فللسودانيين نادٍ وللمصريين كذلك. أمّا نحن فلا نادي ولا جالية تجمعنا، وتطالب بحقوقنا إذا تعرّضَ أحد للظلم أو الأذى.
رأيت من ضروب التكافل من بعض الجاليات ما يمكن أن يكون مثالاً يُحتذى لنا، ولاسيما عند الجالية السودانية. تخيلْ صديقي محبة بعضهم بعضاً، ومساعدتهم لمَن كان محتاجاً منهم في هذا المثال:
كان يعيش في الإمارات زول طيب، اتصل به زول آخر موجود في بلده، طالباً المساعدة في تأمين عمل له، لسوء معيشته وفقره، فسارع الزول إلى البحث عن فرصة عمل لمواطنه، وبعد أن وجدها حجز له تذاكر السفر.
يسأل صديقي: متى سنصل إلى مرتبة زول ولا يجري ما حدث معي ؟!
: عندما رجعت للإمارات بعد تعرضي لحادث السير، حاولت أن أبقى بلا سيارة، ولكنني لم أستطع، فأخذت أتابع صفحة الإعلانات في جريدة الخليج، وقرأت إعلاناً عن سيارة مستعملة للبيع، وفي أسفل الإعلان رقم هاتف المُعلن.
اتصلتُ به، لأسمع لهجته السورية الجميلة، فسألته من أي مدينة أنت؟
حدّد المدينة، وقلت له: أنا استبشرتُ خيراً طالما أنك من تلك المدينة، وأنني أحبها في كل الأيام، وليس فقط في يوم الأربعاء.
اتفقتُ معه أن آتيَ للمدينة التي يسكن فيها، لأرى السيارة.
في اليوم التالي ذهبتُ إليه، وأنا مازلت ألبس حزامي ذا الصفائح الحديدية، من أجل العمود الفِقري، وأنا لا خبرة لي بالسيارات وشرائها، فلمْ أصطحب أحداً معي لفحص السيارة، لأني توسمتُ خيراً بصاحب السيارة ومدينته، وأنه لا يمكن أن يغشني أبداً.
شاهدت السيارة، وقام صاحبها بأخذي إلى مكان لفحصها، لتكون النتيجة أنها كما يُقال (خالية العلام)، فلا قصَّ فيها ولا أثر لحادث سابق.
طلب مني عربوناً لكيلا يبيعها، لأن هناك شخصاً أعجبته كما قال ويريدها، فأعطيته عربوناً، لأجيء بعد يومين لاستكمال دفع المال وإجراءات الفراغة.
كان في شكل صاحب السيارة وكلامه شيء لا يُطمئن، مما دفعني إلى سؤال زميل لي، ينحدر من مدينته، فألْمحَ لي دون تصريح بأن هذا الشخص غير ثقة.
ذهبت بعد يومين وأخذت معي أحد أقربائي، ولديه خبرة كافية بالسيارات، وبسوق (أبو شغارة للسيارات).
قلت لصاحب السيارة: إني أريد فحصها مرةً أخرى، عند أحدهم، فلم يوافق على ذلك.
قلت له: إذن السيارة فيها مشكلة، وقد تكون مقصوصة.
قال: أنت فحصتها سابقاً.
وبعد ملاسنة بيننا طلبت منه إعادة العربون، فلم يوافق.
قلت له: أعدْ نصفه، فتمسك بكلامه السابق.
قلت: أتعرف لو أن هذا الأمر جرى لي مع هندي أو بنغالي أو باكستاني، لأرجع العربون، بسبب وضعي الصحي، أو لأرجع نصفه على الأقل.
يقول صديقي: فعلاً أمر عجيب الشاطر يريد أن ينصب على الآخر.
أول التحاقي بالعمل في تلك الدولة، كنت أذهب لشراء الأثاث من بعض أبناء البلد، فأتعرض للغش والاحتيال.
أقول لنفسي: أشتري من ابن بلدي وأنفّعه أفضل من الغريب، ولكن على ما يبدو لا (يخدعك) إلا ابن بلدك، إن لم أقل كلاماً آخر يقال في هذه المناسبة.
سألت صديقي: ألم تصبح مثلهم في الغربة نصّاباً؟
أجابني: في حياتي كلها لم أقم وزناً للمال، ولا اشتغلت بالدروس الخصوصية، في الوطن أو في الغربة، أو في التعليم المسائي، وكان بعضهم يقدم الرشوة، لشخص اسمه شريف (الذي ليس له من اسمه نصيب)، لكي يُقبلَ في التعليم المسائي، ويزيد من تكديس المال.
ربما أكون بحاجة إلى دورة منهجية، في تعلم النصْب في عشرة أيام، سواء على أرض الواقع، أو (أونلاين)، بسبب الحجْر.
ربما أكون قد لطشت بعض الكتب، من أصدقاءَ لي، ومنهم مَن يُفتي بأن لطش الكتب ليس حراماً.
وربّما تعلّمت النصب قليلاً، عندما تركت بيتي في بلد الاغتراب، وقمت ببيع أثاثه لأحد الأصدقاء، وبسعرٍ أقلَّ ممّا دُفع لي.
فلا أدري إن كنت قد فرضت على ذلك الصديق شراء أثاث البيت، طمعاً بالبيت (اللقطة) وإيجاره الزهيد جداً.
حسام الدين الفرا
شاعر وكاتب سوري