حلب في رمضان


 

يتجوّل رمضان في أزقّة حلب وحواريها غريباً لا يكاد يتعرّف عليه إلاّ بعض الناس الذين شبعوا من الدنيا أو قاطعوها منذ زمن طويل.

رمضان يستجلي حضوره بالمحبة ويفخر بكونه مناسبة للتسامح والغفران.. بحلوله يصل الناس ما انقطع بينهم من حبال الود..

يأتي واضحاً جهراً، وحين يراه الناس يتذكّرون تفاهة خلافاتهم ويبدؤون بإصلاح ما أفسده اللهاث خلف ما كانوا يظنّونه خيراً لهم، فإذا بشهر الخير يفتح بصائرهم ليعوا جمال العالم الذي يتميّز بالنقاء، وبدلاً من اشتهاء ما لدى الآخرين، يلحظ المرء الأشياء التي يحتاجها الآخرون ويسارع إلى بذل ما لديه منها من أجلهم.

لكنّ هذا الذي يفعل ذلك كلّ عام، يشعر بالغربة في قدومه الأخير. الناس يتراكضون ويواصلون صخبهم.. يشتمون الأفعال القبيحة ويمارسونها .. ويتذمّرون..

العالم ليس كما ينبغي.. ورمضان أيضاً يتجوّل في الشهباء هذا العام ليس كما ينبغي، ويتساءل مندهشاً : كم من الأشياء ينبغي تغييرها كي نعود إلى رؤية رمضان واستيعاب فضائله والامتثال إلى متطلّباته وإشاعة المحبة بيننا .. تماماً كما ينبغي؟

أمام مدخل جامع الأنوار لفتت نظري فتاة صغيرة تبكي، سألتها إن كانت ضائعة، أجابت بالنفي، وحين رأتني مصرّاً على معرفة سرّ بكائها قالت: أعادت المعلمات هداياي لهن. الهدايا لم تكن ثمينة كهدايا زملائي الذين قدموا (خلاطة فواكه -معصرة برتقال -مجموعة زينة -طقم مناشف..) أما أنا فقد أهديت معلماتي الأربعة ومديرة المدرسة أثواب نوم. والدي موظف قال: اهد المعلمات وروداً لكنني وفرت /العيديات/ واشتريت خمسة أثواب. جمعت أربعمائة آلاف ليرة ووالدتي أعطتني ألفاً واشترينا الأثواب، لكن المعلمات قلن لي: احتفظي بهداياك، وأعدنها لي، وأعدن كل العطور والهدايا الرخيصة التي لم تعجبهن وأخذن باقي الهدايا من رفاقي الآخرين لأنها غالية. الآن لن يهتممن بي بعد اليوم ووالدي سيضحك عليّ لأنه يعلم أن السيد مدير التربية أصدر تعميماً بعدم قبول الهدايا.

قلت لها: لا تتوهمي أيتها الصغيرة.. المعلمة لا تهتم بهذه الصغائر وهي تعلم أن الهدية على قدر الاستطاعة وإلاّ تحولت إلى تسمية أخرى، والمعلمة تهتم بجميع الأطفال وتحب التلاميذ بصرف النظر عن الهدايا. المعلمات قبلن الهدايا ولكنّهن أحببن أن يهدينك إيّاها لأن عيد المعلم جاء متوافقاً مع رمضان المبارك.

مسحت الطفلة دموعها.. حملت كيس الهدايا وهي تشكرني وبدا في عينيها سؤال ينمّ عن عدم اقتناعها بحجّتي، فهل لديكم إجابة أكثر إقناعاً تساهم في إعادة العملية التربوية إلى جادة الصواب لتحقيق أهدافها ؟!..وهل يمكننا جعل كلّ يوم رمضان؟

الصيام لغةً: الإمساك والكفّ عن الشيء. وشرعاً: الإمساك عن الطعام والشراب والجنس، من الفجر إلى غروب الشمس. وفقهاً: الإمساك عن الشرّ وكفّ الأذى منذ الولادة حتى الموت.

وإذا كان الكفّ وحده لا يكفي مالم يتلوه جارّ ومجرور يبيّن الفعل الذي يجب تجنّبه، فإنّ الصوم الشرعي يتّصل بالصوم الفقهي ولا يتمّ إلاّ به.

الصوم الذي فرض على المسلمين امتثالاً لقوله تعالى {يا أيّها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتقون} هو أيام معدودات يمكن أن يُستثنى منها المريض والمسافر، فيعوّضها بأيّام أُخَر، أو بفدية. لكنّ هذا الاستثناء لا يُبيح للإنسان -المسلم وغير المسلم-في البلاد الإسلامية أن يجهر بفطره، وذلك احتراماً لشعائر العبادة التي هي مظهر من مظاهر التضامن الاجتماعي والأعراف والتقاليد التي يتميّز بها شعب من سواه.

والصيام الذي كُتب -بسماته الشرعية -إنّما يرمي المشرّع من ورائه إلى أمل بالإنسان أن يقي نفسه الآثام {لعلّكم تتقون}.

ولهذا جاء الحديث الشريف موضّحاً مواصفات الصيام (إنّما الصوم جُنّة، فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم.. إني صائم) وهنا يمتد الصيام ليشمل ترك التشاتم والتسافه، والبعد عن كل ما يضرّ المجتمع أو أي فرد فيه، وهجر كلّ ما نهى عنه الإسلام، وإتيان كلّ ما أمر به. فلا صيام للذين يغشّون أو يرتشون أو ينمّون، كما لا صيام يُقبل من الذين يؤذون الناس -بقصد أو غير قصد -ويعطّلون مصالحهم إما بقصد منفعة (رشوة) أو باللامبالاة التي يواجَـهُ بها أصحاب الحاجة من الذين أوكلتهم الأمة لقضاء المصالح، أو بحجّة الصيام الذي يشعر بثقله من يقتصر بصيامه على الحدود المادية للصوم، ممّا يجعله يتأزّم فيضيق حلمه وتغالبه طباع فاسدة تأصّلت فيه. يقول الرسول الكريم (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).

وهنا نصل إلى فائدة عظيمة يمكن أن يجنيها الصائم من خلال التزامه بأوامر الله، حيث يمرّن نفسه على الصبر وتقوية الإرادة، ممّا يمنحه احتراماً لذاته حين يلاحظ أنها تقوم بفعل مجاهدة لا يُلزمها به أحد من الناس. وإنما هو أمر طوعي التزم به الإنسان تجاه خالقه، ولا رقيب عليه سواه.

يجوع فتسمو نفسه وترتفع عن الصغائر وتميل إلى الشعور بمعاناة الفقراء الذين لا يملكون إلاّ النذر اليسير من أقواتهم بسبب مغالبة أصحاب اليسار الذي يكنزون على حساب الآخرين ويسرقون جهدهم وثمرات أعمالهم.

لقد اعتدنا أشياء كثيرة نحاول التخلّص منها، ورمضان فرصة طيّبة لكي نمتحن قدراتنا على ترك عاداتنا الذميمة لنبني عادات أخرى نرغب أن نتحلّى بها.

فلنحاول على صعيد التسامح والمحبّة وترك الشرور وإغراءات سلطان المال والقوّة، على صعيد الروح والاتّجاه نحو النور الإلهي، على صعيد التآخي والتراحم… لنحاول أن نجعل كلّ يوم رمضان.

ولنتذكّر حديث رسول الله (e): (من صام رمضان وعرف حدوده، وتحفّظ ممّا كان ينبغي أن يتحفّظ منه، كفَّر ما قبله).

جعلنا الله في عِداد الصالحين، وأعاننا على مكافحة الشرّ، مبتدئين بأنفسنا [التي نستثنيها عادة] كي لا نغدو كالذين يأمرون الناس بالمعروف وينسون أنفسهم. آميــن.

 

د. محمد جمال طحان

كاتب وباحث

 
Whatsapp