رمضان.. مناعة مجتمع


 

 

طلب مني رئيس القسم السياسي – بأسلوبه اللطيف المعتاد - أن أكتب شيئًا عن شهر الصيام. قلت له: أحاول. فكرت كثيرًا ماذا عساي أكتب عن مسألة أشبعت بحثًا وتأليفًا ومدحًا وشعرًا من فقهاء وعباد وعلماء وكتاب ومفكرين على مدى قرون طويلة. ليس ثمة جديد يمكن الكتابة عنه. ولا أحب تكرار الكلام لمجرد ملء الصفحات. لقد كتب الكثير عن فوائد شهر الصيام وثوابه ونفحاته. هل يمكنني أن أضيف شيئًا. لا أعتقد. تركت طاولتي وخرجت.

ذهبت إلى المركز الذي أعمل به فإذا الجدران والأبواب والسقف مكسوة بأعلام وفوانيس وعبارات لطيفة تستقبل شهر الصيام وتحتفي به. بمجرد دخولي قابلتني الابتسامات من الجميع. البواب وموظفات الاستقبال والعمال والممرضين والأطباء والاداريين. الكل مبتهج. والكل يبارك للكل قدوم هذا الشهر بنفوس طيبة ووجوه مبتسمة. تلمح وراء هذه الابتسامات روحًا جديدة ونبضًا يختلف عنه في باقي الشهور. معظم المرضى المراجعين يبدؤون حديثهم بالتهنئة والمباركة. قبيل المغرب تتجه إلى المسجد النبوي الشريف أو مسجد قباء أو حتى مسجد الحي. عدد كبير من الناس من أجناس وأعراق وألوان مختلفة يستقبلهم السعوديون وغيرهم على موائد الإفطار بترحاب شديد ولطف يفوق الوصف متمنين على القادم أن يكرمهم بالجلوس إلى سفرتهم. يظهر لك المضيف من التواضع والتودد والترحاب ما لم تعهده في الأيام الأخرى. تجلس على مائدة الإفطار البسيطة فترى حولك العربي والتركي والكردي والصيني والبنغالي والهندي والأوروبي والأبيض والأسود. الكل يتلطف لمن يجاوره ويعرض عليه خدماته. حالة اجتماعية إنسانية عابرة للحدود قل نظيرها. يأتي وقت صلاة التراويح فتتحول الشوارع المحيطة بالمساجد إلى خلايا نحل. يقف الجميع في صفوف مستوية منظمة منتظرين الركعة الأخيرة لكي ترتفع أكفهم وتدمع عيونهم وتسجد قلوبهم خاشعة بين يدي بارئها في منظر أخاذ يشكل وصلة متينة بين الأرض والسماء. 

يسافر خيالي سريعًا إلى سورية وتحديدًا إلى بلدتي أريحا. في رمضان تشعر هناك ببهجة خاصة وطعم مميز لكل وقت وكل طقس وكل سلوك اجتماعي. الأناشيد الجميلة التي تلامس القلب والروح والتي ترحب برمضان فتبتهج القلوب، أو تودعه فتدمع العيون. حلقات الدرس في المساجد. حركة السوق قبيل المغرب وأصوات الباعة والنشاط التجاري الكبير. تبادل صحون الطعام بين الجيران. اجتماع العائلة على مائدة الإفطار. صلاة التراويح التي يتنافس على صفوفها الأولى المتسابقون. يتبعها المشوار الليلي للأصدقاء والأقرباء والأحباب. طقوس السحور الخاصة والتي يتبعها ترنيمات خاصة بأصوات شجية قبيل الفجر تدعو الناس للخروج نحو المساجد لأداء الصلاة.

في هذا الشهر تُكسر العادات السيئة المستحكمة – الفردية والاجتماعية – وتحصل النفس على مساحة كافية وبيئة مناسبة لمزيد من التحكم في الذات والسيطرة على الغرائز والتغلب على النزوات – الفردية والاجتماعية – من خلال التربية التي تتلقاها النفس عبر حرمانها الهادف من المباحات والضروريات.

في هذا الشهر يندر أن تجوع عائلة في مجتمع مسلم، أو يحتاج مسكين لأساسيات حياته.

في هذا الشهر تنتهي الكثير من الخصومات المزمنة وتحل العديد من المشاكل العائلية المعقدة وتوصل العلاقات المقطوعة وتمسح العداوات وتخمد حدة الضغائن. حيث تنشط الفعاليات الاجتماعية الخيرة في هذا الشهر - وبدافع واضح من النصوص الشرعية التي تحض كثيرًا على صلة الأرحام وتحريم المشاحنات - لإنهاء الخلافات العائلية والاجتماعية على قاعدة من التسامح حفاظًا على نقاء هذا الشهر. 

في كل بلد إسلامي هناك طقوس خاصة بشهر رمضان (على سبيل المثال أخبرتني ممرضتي الفيليبينية عن طقس خاص لبلدتهم التي تحيط بها المياه من كل جانب في رمضان حيث يخرج عدد كبير من الشباب في القوارب قبيل الفجر وينشدون أناشيد جماعية محببة بصوت عالي لإيقاظ الناس على السحور)، لكنها على اختلافاتها بالمظهر تشترك في العمق بإحياء الروح الاجتماعية العامة التي تزرع الدفء وتنشر البهجة في المجتمع وتبرز فيه أخلاق المحبة والتسامح والتعاون والتكافل بأعلى درجاتها. 

ببساطة يشكل شهر الصيام دورة سنوية مكثفة لمنهج التربية الاجتماعية والنفسية والسلوكية والعلاقات الإنسانية والأخلاق الحميدة التي تلعب دورًا مهمًا في استقرار المجتمع وتماسكه ونهضته. حيث يرتبط هذا الشهر في وعي المسلمين – ولا وعيهم - بجو عام من المحبة والتسامح والصبر والتكافل والشعور بالآخر والقدرة على تجاوز الخلافات والصدق والأمانة والابتعاد عن الشرور والشهوات. هذا الأمر يعطي لرمضان خصوصية تجعله موسمًا فريدًا لمراجعة الذات على مستوى العلاقة مع الله من جهة والعلاقة مع المجتمع – وهو موضوع المقالة - من جهة أخرى. فالكثير من العادات الضارة المستحكمة يتم التخلي عنها في هذا الشهر، والعديد من الأنشطة الاجتماعية التي تحض على الاحسان والتعاون والتراحم يتم تثبيتها في هذا الشهر، والكثير من الضغائن يتم تنظيف النفس منها تحت مظلة الهالة الايمانية السحرية التي تسري بالمجتمع مع هلال أول يوم من رمضان. إنه محطة لتصحيح الكثير من الأخطاء والهفوات وبلسمة الجراح وإعادة بعض التوازن المادي والنفسي للفرد والمجتمع. رمضان جرعة سنوية داعمة تزيد من مناعة المجتمع تجاه الأمراض الاجتماعية المتراكمة والأدواء المستعصية. إنه بمثابة اللقاح الاجتماعي السنوي الذي يحافظ على جسم المجتمع معافى قويًا. هذه النقطة التي قررت أن أوجه الضوء إليها استجابة للطلب. 

بالطبع رمضان ليس زرًا تضغط عليه أول الشهر فتتحول فجأة لإنسان ودود لطيف متسامح محب للخير، لكنه منبه يهز ضميرك والكائن الاجتماعي اللطيف القابع في أعماقك ويدفعه نحو النهوض والحركة. إنه نسمة تزيل الغبار عن كوامن الخير في نفسك وعقلك وقلبك. ولا بد بعدها أن تمتلك حافز الحركة وشجاعة التغيير وإرادة الاستمرار. هل أضفت شيئًا؟ لا أدري. 

 

 

د- معتز محمد زين

كاتب سوري 

Whatsapp