لن تغتسل بنهر الزمن مرتين


 

                                        

تماماً كما النهر يجري الزمن ويجرف معه ما تراكم من عوالق وما يقف في وجه اندفاعاته من سدود وعوائق طبيعية ومصطنعة، يتحرك بلا توقف، لا حدود لجريانه ولا يعرف الراحة أو النوم، وقد نتساءل هل يشيخ الزمن، هل يتعب ويمرض وهل سيفكر بالاستقالة ومتى، ماذا لو أخذ استراحة أو إجازة للتنزّه والاسترخاء، هل سيحسم وقت الإجازة من أعمار الناس، لماذا لا يكون الزمن جميلاً وعادلاً مع الجميع، متى ستكون قماشة الزمن من لون واحد ونسيج واحد وبطانة موحدة؟؟

كلنا يعلم استحالة وقف عداد الزمن أو استعادة لحظة غاربة، مع ذلك ما الذي يشدّنا إلى تمني العودة إلى طفولتنا البارحة، هل حقاً وصدقاً ما نتمنى على فرض إمكانية تحقق هذه الأمنية الحمقاء التي تثير الضحك المؤلم في غرائبيتها وسذاجتها؟

 ليس تنصلاً من الحمق والسذاجة ولكن عن نفسي لم أرغب في أي وقت، ولا أريد العودة أبداً إلى مرحلة الطفولة، لا أشعر بالحنين إلى استعادة لحظاتها والظروف التي اكتنفتها، ولو أن معجزة ما أتاحت لي العودة إلى الماضي بأيّ من مراحله العمرية لرفضت مغادرة عتبة عمري وما أنا عليه الآن وقد شارفت على إنهاء حصتي من الحياة. ربما لآنّ المرارة والحزن والقلق والخوف كانت عناوين أوضح لما عشته في ظلّ بلدٍ منكوب بالطغيان يفرّخ البؤس والغصص حتى في لحظات الفرح. كذلك أرتعد لمجرّد التفكير في استعادة تجربة الفقد لأم وأب ولكثيرٍ من الأصدقاء والأحبة.

إنّه الزمن في جريانه الصاخب باتجاه مصبّه الأخير يحفر أخاديده عميقاً في أرواحنا وأجسادنا، ويخلف ندوباً وجراحاً لا سبيل إلى التئامها، لا يمكن للزمن أن يستعاد ولا للذة عشتها يوماً أو بهجة عابرة مررت بها وعشت لحظاتها أن تتكرر، حتى حين تعيد مشهداً ما بتفاصيله كأن تذهب إلى مكان سبق لك أن زرته ودهشت بمفاتنه، أو أن تعيد قراءة كتاب أو مشاهدة فيلم باذخ، لن تستعيد ذات الدهشة أو تلك المتعة الغامرة التي رافقت تجربتك الأولى. كذلك لن يمكنك القبض على اللحظات الهاربة مهما جهدت للإمساك بها.

لن تحنّ لما لم تعش يوماً ولا لمن لم تعرف ، ولا لما ليس له وجود حتى في مخيلتك، ولن يكون بمقدورك أن تستنسخ حياة سمعت عنها من أناس آخرين أو ربما قرأت عنها، نعم قد نشعر، على الأرجح، بالحنين إلى وقت مترفٍ مرّ، وإلى أمكنة وأشخاص تركوا آثارهم المطرّزة بالجمال في حياتنا قبل أن يغادرونا أو نغادرهم، وقد يحنّ قليل أو كثيرٌ منّا إلى مرحلة الطفولة أو الصبا من عمره، ويظنّ أنّه سيستعيد سعادة مفتقدة ويعيش حياة أجملَ خَبِرها في حينها، لكنّه بالتأكيد سيكون واهماً لسبب بسيط هو أنّ الزمن الذي يحلم به لم يعد موجوداً، لقد ذهب إلى مثواه الأخير، وأنّ ما تبقى منه هو ذلك الجزء الذي لم يعش بعد بالرغم من كلّ ما يبشر به من بؤس وألم.

شيء ما أو ربما أشياء أكثر من أن نحيط بها تشدنا إلى ماضٍ مازال حياً في الذاكرة والوجدان الجمعيّ لأجيال، ما زالت تتقاسم معنا هواء الأرض الملوّث بوجودنا الطارئ، وغير المرحّب به غالباً، نستذكر ونحلم ونتوق لإعادة إنتاج ما فات وستبهت صورته إلى أن تغيب، وما بين الحلم والذكرى ليل طويل ومتاهة مظلمه نتنقل عبر دهاليزها بتثاقل وضجر، وكأنّ الروح معلّقة إلى حبال من القنّب تنوس نازفة ما تبقى من زيت الأمل.

بالتأكيد لم تكن حياة جميلة ومترفة تلك التي عاشها السوري منذ استيلاء الطغمة العسكرية والأمنية على السلطة في سورية، بل لم تكن أقلّ مكابدة وبؤساً في حقيقتها مما هي عليها اليوم فالخوف والقلق المتعاظم من المجهول كانا سدّاً أمام أحلام الناس وقاتلاً لأية مناسبة فرح ممكنة.

 إن السكن في كهوف الذاكرة نكوص نحو البدايات الهشّة، تقهقر وهزيمة أمام واقع لا تملك القدرة على تغييره وعجز عن التأقلم معه والاستجابة لمتطلباته، إن اللجوء إلى الذاكرة تخلّ عن حياة تطلبت كثيراً من الوقت لإنجاز ما أنجزت في عمارة الذات، هجرة من صقيع إلى صقيع أكثر إيلاماً وقسوة، هروب من قيود الراهن إلى معتقل الماضي والخضوع إلى وسائله المعقدة في التعذيب، لعلّك حين ترمي الحاضر بكل ما لديك من مفردات الشتيمة وتنعته بأقذع الأوصاف إنما تمارس عدوانية تجاه نفسك وجلداً عنيفاً لذاتك لا تستحقه بالتأكيد وإن كنت تتحمل المسؤولية عن الوقائع الراهنة إلاّ أن كثيرين وربما الجميع يشاركونك المسؤولية عما حدث، وعن المآلات الفجائعية لهذا المخاض المؤلم.

 

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي

 

Whatsapp