عن غزل وعشقها لحلب


 

قرأت رواية (غزل) للقاص والناقد السوري أحمد مشول الصادرة في القاهرة 2021، شدَّتني أحداثها وتفاصيلها التي تتحدث عن مدننا السورية الحبيبة، لأن حلب تعني الكثير لكل سوري ويعتبرها مدينته الأغلى.

  • حملت معي دفاتر مذكراتي وبقايا الصور المعلقة على جدار القلب، لم أكن أستطيع أن أحمل إرثاً مليئاً بالحياة والأحلام والآمال، لم أكن أعرف كيف يستطيع الناس ترك ذاكرتهم وكل هذه الصور ويمضون بعيداً.

الرواية تتحدث من خلال بطلتها (غزل) عن جمال سوريا وقيام الشعب بالثورة ضد الديكتاتورية والطغيان، فجوبه بحقد النظام. 

أصوات القذائف وأزيز الرصاص منعها من النوم، فغفت على ما تبقى من الأخبار التي تحاصرها كل يوم، وتتساءل بألم كيف ينام الناس والبيوت والقرى والمدن يتم قصفها وتدميرها، ومئات القتلى تفوح دماؤها من نشرات الأخبار. 

محاصرة كل يوم بشوقها وعشقها للمدينة ولحبيبها، ولا تعرف كيف تغالب الشوق وتتخلص من وجع الحنين:

  •  هل انا مريضة بك؟، أم أنني مريضة بالمدينة التي تغتالني كل يوم؟، هذه المدينة التي تحمل صفات متعددة واسم واحد هو حلب.

بهذه البداية تبدأ رواية غزل التي تقارب مواضيعاً يتداخل فيها حالة الحب والحرب، حالة العقل والجنون، حالة تعبر عن جحيم الحرب ونيران الحب، هذا التناقض والصراع ما بين تمسك غزل بالمدينة كحالة دفاع عن القيم العاطفية التي تتعرض للتفتت والاضمحلال.

غزل التي تجد في عشقها لعملها بالتمريض في ظروف الحرب وعشقها لحبيبها فرصة للتمسك والبقاء في المدينة التي غادرها أهلها وبقيت متمسكة بالطرقات والأماكن والحدائق والعشق الجنوني.

الرواية تؤرخ لبداية المظاهرات في درعا احتجاجاً على قلع أظافر الأطفال بسبب كتاباتهم وخربشاتهم على الجدران للمطالبة بالحرية، ثم امتدت المظاهرات إلى المدن والقرى مثل النار في الهشيم، وجاءت المظاهرات في دمشق وحماه وحلب وإدلب والرقة ودير الزور والقامشلي واللاذقية، وبقية المدن لتؤكد بأن القمع لم يكن الحل ولابد من تفهم حركة الاحتجاجات وبأن الحوار هو الطريق الوحيد لإنقاذ الوطن من الخراب

ولكن مع ارتفاع درجة العنف من السلطة والعنف المضاد بدا الوضع أكثر خطورة ويدفع باتجاه تدخل عصابات ومرتزقة ودول في الصراع، ويدفع الناس البسطاء حياتهم وحرياتهم وممتلكاتهم ثمناً له.

تقول غزل:

  • الناس خرجت من بداية الثورة للمطالبة بالحرية والتخلص من الاستبداد، ولكن فوجئت بدخول أشخاص ومجموعات تمارس القتل على الهوية وتقوم بالاستيلاء على مؤسسات الدولة ومصانعها وتقوم بسرقتها وتوزيعها باعتبارها غنائم حرب، ولقد نسيت هذه المجموعات المسلحة أن هذه الأموال عائدة للشعب وأن سرقتها سرقة لأموال الشعب.

أصعب شيء في هذا العالم أن يتم طرد الانسان من بيته، كنا نبحث عن مدن آمنة في عالم غير آمن هكذا كانت غزل تكتب في يومياتها عن الحرب المجنونة.

كانت حالات الاعتقال قد شملت عشرات آلاف الناس والتي ترافقت مع القتل والتصفية الجسدية والاغتصاب في سجون النظام فقط لمعارضتهم السلطة وديكتاتورية الأسد، وبعد عدة أشهر من اعتقال حبيبها وجدت نفسها أمامه ودموع الفرح والرغبة واللهفة امتزجا برائحة الجسد، إنها الحرب الملعونة القذرة التي تريد أن تدمر كل شيء، ولكن إرادة الانسان على التحدي أكبر.

غزل وبعد عذاب الطريق الذي قطعته من حلب إلى أنقرة مروراً بابنة عمها في عفرين، كانت ذاكرتها مفتوحة على الماضي ولحظات الحب والشبق والجنون التي كانت تعيشها وتعيد بعض تفاصيلها وهي تشرب القهوة مع أمها، حيث يلعب التداعي الداخلي دوره.

 في أنقرة وبعد حالة الاسترخاء ورحيل التعب وأمام وطأة الحياة وضرورة المساعدة في المصاريف وجدت نفسها عاملة في صالة للألبسة النسائية وكانت تعود منهكة تماماً لتنام وهي تستعيد حياتها وذكرياتها في حلب، وأمام صعوبة العمل لمدة اثنتا عشر ساعة يومياً وجدت في الزواج فرصتها للخلاص الجسدي، ولكن روحها مازالت متعلقة بالماضي وجنونه والذي يتسلل إليها مع تسلل صوته عبر الهاتف. 

غزل تعود لذاكرتها المثقلة بالجروح والقصص المفتوحة لدى صديقات المشفى عن الحياة والحب والعشق والجنون، وتتابع رحلة حبيبها في الهجرة واللجوء إلى أوربا من خلال رسائل الواتس حيث تقول:

  • لا أعرف أين أنت الآن وإلى اين وصلت؟، وكل الذي أعرفه أن المركب توغل بالبحر كما كنت تتوغل في روحي وعمري، أحاول طوال الليل استعادة صوتك وصورتك وآخر كلمات كتبتها لي، بدأت صورة البحر تلاحقني والعرق يتصبب مني، والحيتان تنظر بعيونها نحوي، ورسائل غامضة تصلني وتشعرني أن خطراً حقيقياً يهدد حياتك، هل أرسل لك عينيَّ لترحل إلى بر الأمان؟، أم أرسل لك صدري لتنام فيه حتى تصل، كيف أستطيع الآن أن أضمك إلى صدري وأحميك من المجهول.

هكذا كانت غزل تهذي ولم تكن تعرف إلى أين وصل سعيد.

 

جوانا كيالي

كاتبة سورية

Whatsapp