لم يكن مستغرباً موقف الحكومات العربية مما يجري في ساحات الأقصى الذي اتسم بالتجاهل والصمت، فيما قوات الإحتلال الصهيوني تزداد وقاحة وصلفاً تجاه الفلسطينيين أصحاب الأرض وخاصة في القدس الشريف، فبعد سلسلة الهرولة باتجاه التطبيع التي ميّزت الشهور الأخيرة وغياب الاستراتيجية العربية تجاه قضاياها المركزية والمصيرية، وحالة الإستلاب الرهيبة التي بدت عليها السياسة العربية، الأمر الذي جعل كلاً من إيران وإسرائيل تزدادان في الإمعان بالتغوّل وإذلال الأمة.
لكن حسابات المتآمرين على الأمة ليس شرطاً أن تكون على صواب، فما يزال في هذه الأمة من يحمل قلب عمر وسيف خالد وتصميم صلاح الدين، وكما استطاعت تضحيات الشعب السوري أن تكشف عورة النظام الرسمي العربي وتخاذله في نصرة هذا الشعب العظيم بل وتواطئه مع المجرم بشار الكيماوي، هاهم المقدسيون الأبطال يكملون مسيرة الفضح وينتفضون بوجه المحتل الصهيوني الغاصب ولم يرفعوا في رحاب المسجد الأقصى سوى علم الثورة السورية إعلاناً منهم أنّهم من رحم هذه الأمة التي أنجبت الشهيد عبد الباسط الساروت وقافلة الشهداء الذين رووا بدمائهم أرض الشام التي كم مرّ عليها من الغزاة ومالبثوا أن طردوا منها شرّ طردة.
حين خرج السوريون بالمظاهرات السلمية في بداية الثورة كانت بوصلتهم واضحة وهتفوا " ابن الحرام .. باع الجولان" ، ارتعدت فرائص الكيان الإسرائيلي وعلموا مدى خطورة هذه الثورة على مستقبل دويلتهم المصطنعة، فعملوا المستحيل كي لا تنتصر الثورة وضغطوا على الرئيس الأميركي آنذاك ( أوباما) كي لايسقط حارسهم الوفي في دمشق، وجلبوا زبانيتهم من كلّ الأصقاع ليقاتلوا الشعب السوري الأعزل ويحاصروه ويجوّعوه ويطردوه من أرضه كي يبقى الأسد. لم يدر بخلدهم أن الثورة السورية لم تكن لسورية وحدها ولا لشعبها فقط، بل كانت لكل الأحرار في المنطقة وملهمة للعالم أجمع، وهاهي القدس وسائر الفلسطينيين يؤكّدون ذلك ويرفعون علم الثورة وحيداً في سماء القدس للدلالة على أن الثورة تعنيهم هم أيضاً وأن العدو واحد والمصير واحد، ولا غرابة أن نسمع أهازيج الساروت في أسواق القدس القديمة وهي تشحذ الهمم وترفع المعنويات لتعانق السماء.
نعم مازالت بوصلة الشعب العربي تشير إلى العدو الحقيقي الذي زرعه الغرب كجرثومة تعبث بجسد الأمة، ورغم انبطاح الحكام العرب ورضوخهم للإرادة الصهيونية إلّا أنهم لم يستطيعوا هزيمة الشعوب العربية التي صنعت " الربيع العربي" وستصنع ربيعاً آخراً بنكهة النصر والحرية.
كنت ألتقي بالأصدقاء الفلسطينيين في الجامعة أيام الثمانينات بدمشق، وكم من مرّة تجادلنا بخصوص النظام السوري الذي كان يتصدّر ما كان يطلق عليه " جبهة الصمود والتصدّي"، وكنت أقول لهم لن تحرّر فلسطين إذا لم تتحرر شعوب دول الطوق وخاصة الشعب السوري، لأنّ من يحمي هذا الكيان ليس جيش الإحتلال وإنما أنظمة العمالة وعلى رأسهم نظام الأسد، وتوالت الخطوب حتى جاء اليوم الذي سقطت فيه ورقة التوت عن حلف الممانعة وبدا للقاصي والداني زيف شعاراتهم وخبث راياتهم، وأنّ " طريق القدس" الذي تاجروا به لتبرير جرائمهم ومجازرهم بحق الشعب السوري والعراقي واليمني واللبناني، لم يكن بعيداً ليتوهوا عنه! ولم يكن يحتاج لراياتهم الطائفية البغيضة! ولم يكن يتطلّب كلّ هذه الجماجم ليعبّدوا تلك الطريق! لقد كان الطريق واضحاً سار عليه من كانت بصيرتهم حاضرة وهدفهم واضح وضوح الشمس، وإلّا ما كان وصل العلم ورفرف فوق المسجد الأقصى.
إنّها إرادة الأمة التي لاتقهر، وهذا مادفع الرئيس الفرنسي ( ماكرون) لإرسال رسالة شديدة اللهجة للسياسيين اللبنانيين تحذّرهم من مغبة العرقلة في تشكيل الحكومة والتهديد بعقوبات تطالهم في حال تنصّلهم من وعودهم التي التزموا بها، ولعلّ تصريحات الخارجية الأميركية الأخيرة حول نظام الأسد وإعلان الرئيس (جو بايدن) تمديد حالة الطوارئ بخصوص سورية، ووصف النظام بأنّه بات يشكّل خطراً على الأمن القومي الأميركي، وبأنّه يعيق عملية إعادة الإعمار في العراق. كلّ ذلك يؤشّر إلى أن الغرب بات قلقاً جداً من الإحتقان الشعبي في المنطقة، وقد تخرج الأمور عن السيطرة بعد أن تجاوز حلف الممانعة كلّ الخطوط الحمراء والصفراء وصار منبعاً لتصدير المخدرات والأزمات وكلّ أشكال الدمار في المنطقة، من أجل أن تنعم إسرائيل بالإستقرار. فهل حصلت فعلاً على الإستقرار؟ أم أنّها فشلت حتى في التطبيع ليس مع الأنظمة المحيطة بل حتى في داخلها، والمقدسيون يشهدون.
ياسر الحسيني
كاتب سوري