ضجّ العالم مما حدث في فلسطين خلال الأيام الماضية، وبين ردود الفعل ورصد الأحداث وجريانها، دارت حرب حقيقية داخل جدران المسجد الأقصى المبارك، لتقلب الآية خلال ساعات من شعور بالألم إلى نشوة الفرح، وذلك عبر إفشال مخطط الاعتداء على مقدس من أهم المقدسات الإسلامية، في قضية تعتبر من أهم القضايا، كونها تحمل ارتباطات ودلالات كبرى، فضلاً عن أنها القضية المركزية والتي تتمحور حولها جميع الأطياف والطوائف.
نعم غزة دخلت على المعادلة، هذه المعادلة التي تختلف عن المسجد الأقصى تكتيكاً، وتختلف شكلاً من ناحية الإعتداء، والتي لا تختلف في فحواها ومضمونها، فالقضية الكبرى احتلال مرفوض، واعتداء مدان، وإجرام فقد محكمة في الدنيا عادلة، وسط التواطئ الدولي، على ملف المسلمين بشكل خاص، الذين يشهدون ظلماً في غالب بقاع الأرض اليوم، عدا من والى ضمناً، واستُخدم كأداة من قبل القوى العظمى لخدمتها والتي توجه مسار الدول بأسرها، بواقع مشهود وملموس وموثق بعيد عن نظرية المؤامرة.
تحيط في القضية الفلسطينية بشكل عام، وحول القدس والمسجد الأقصى تحديداً لو أردنا أن نركز المنظار، ملفات عديدة وارتباطات ثقلها الزمن، ورسختها الأحداث، فإن أخذناها بلمحة نجد عناوين الارتباط يتمثل بالديني بداية، والسياسي مروراً، ودلالة جغرافية، فضلاً عن الشكل الذي تأخذه من حرب واعتداء، فما الذي تحتويه القدس وحدثها الأشهر في الثامن والعشرين في شهر رمضان من دلالات؟
الكيان الإسرائيلي خطط لتفريغ المسجد الأقصى في ذاك اليوم، صب ثقله وجنوده لتحقيق هذا الهدف، ومهد له باقتحامات متعددة، ليحيي مناسبة ما يسميه يوم أورشليم أو يوم توحيد القدس الذي تزامن مع الثامن والعشرين من رمضان هذا العام، وهو يوم إعادة توحيد شطري (عاصمة إسرائيل) خلال حرب الأيام الستة عام 1967، في نهاية المطاف أفشل المرابطون الاحتفال الديني المزعوم عند الاحتلال، بصمود غير مسبوق، دفع القوات لإعلان الانسحاب من المسجد الأقصى المبارك، الذي يعتبر القبلة الأولى للمسلمين في كل العالم، وثالث الحرمين الشريفين، ما يحمل رمزية عقدية دينية لديهم ولدى الاحتلال، هذه النقطة التي يطول الحديث عنها، وتفرد لها أبحاثاً كبرى لأهميتها، لكن ما جرى مثال واقعي وحدث مشهود في الأيام الأخيرة.
وما جرى من محاولة تهجير أهالي حي الشيخ جرّاح، يثير مشاهد متكررة، من التغريبة الفلسطينية إلى السورية مروراً بالعديد منها، وذلك لأهمية مدننا وقرانا بل حتى أحيائنا في شتى مناطق العالم العربي، الذي يحمل في باطنه ثروات تغني العالم بأسره، ومواقع جغرافية توقف حركة السيطرة الدولية التي نرى الاستماتة عليها من القوى الكبرى وسعي حثيث في ضمها إلى المسار الدولي، ومن هنا تبدأ التصنيفات، للجماعات التي تقف عائقاً أمامها "المعادية، الإرهابية، المشاغبة" وغيرها، مع العلم أن بعضها للتغطية على سوءات أخرى، كشفتها ثورات الحرية التي تدخل عقدها الثاني.
ومن أسلوب التهجير الممنهج الذي يشهده حي الشيخ جراح اليوم، وما سبقها من تهجير أرعن، قامت به كل من إيران وروسيا ونظام الأسد في سورية، مروراً بالتهجير في العراق واليمن وغيرهم، يتضح الهدف السياسي المترابط، في تحقيق المصالح المترابطة، بين من يسيطر على المشهد، ويفضح شبكة العلاقات القائمة بين الكيان الإسرائيلي وإيران "الصامتة"، إضافة لأفرعها، والدعم للكيان من قبل الولايات المتحدة، وفروع الأخيرة في عالمنا العربي، مع موجة التطبيع القائمة، والمتزامنة بنفس التوقيت بمحاولات التطبيع مع نظام الأسد، فيا سبحان الله!
ما هو ملفت هو شكل الاعتداء أيضاً، ففي القدس التي تعتبر إسرائيل دولتها دولياً، (ولن تعترف الشعوب الحرة بذلك)، يكون الاعتداء بالضرب والرصاص المطاطي والقنابل الصوتية (جريمة كبرى) واعتداء حقيقي، ورغم أنه كذلك، إلا أن وابل الصواريخ التي تقصف غزة، إنما لها آلاف التبريرات، كونها دولة صغيرة لوحدها، يتصدر مشهدها "جماعة إرهابية" بنظر المجتمع الدولي، ليكون قصفها مشرعن، مغضوض الطرف عنه من قبلهم، أما عن سورية والعراق واليمن فحدِّث ولا حرج.
دلالات واحدة تلو الأخرى فمن خصوصية رمضان والعشر الأخير منه والقدس والمقدسات، إلى رمزية يوم أورشليم، وعقائد قوات الاحتلال المزعومة، بدلالات زمنية ومكانية، ودلالات الانتخابات الإسرائيلية، التي سبقت هذا الحدث سياسياً، والهرولة للتطبيع مع الكيان عربياً، والدعم الدولي، وتوهان فيلق القدس عن طريقه منذ سنوات عديدة، والقتل الذي شكل عنوان المرحلة السابقة، وسط كل ذلك تتضح الصورة المركبة لدى كل من تابع وتفاعل مع القضية الفلسطينية المركزية، بخصوصياتها وما احتوته من أهمية.
ليبقى الصراع بين الحق والباطل قائماً، بوصلته المسجد الأقصى، بانتظار التحرير القادمٌ لا محالة في ذلك ولا شك، كما يرى أصحاب الأرض ومن وقف مع قضيتهم العادلة ذلك، وما يثبته من وثائق أعدائهم المعتدين، الذين أقروا بأن الدولة تحترق، في عناوين صحفهم العبرية بعد ساعات فقط من حرب غير متكافئة لا عدة وعتاداً، لكن يبدو أن لرمضان دلالة أخرى، دلالة النصر والصمود، رغم الإجرام والاحتلال والاعتداء، ورغم محاولات إسكات الناشطين والموثقين من قبل مسؤولي منصات وسائل التواصل الاجتماعي.
فاتح حبابه
إعلامي وكاتب صحافي