لم يلتفت ْ، امرؤ القيس شاعر العرب الأوّل، وصاحب المعلّقة الأولى، المعروفة بمطلعها:
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل ِ
بسقط اللوى بين الدخول فحومل ِ
لم يلتفت إلى الرسول الذي جاء ليخبره بمقتل أبيه، ملك بني أسد، بطعنة نجلاء غادرة، بل مضى مكبّاً على مائدة لهوه، قابضاً على كأسه، لائماً أباه، قائلاً:
ضيّعني صغيراً، وحمَّلني دمه كبيراً ...!
مشيراً بهذا إلى طرد أبيه له بسبب تصرفاته وعبثه وتهتكه من جهة، وواجبه بأخذ الثأر من قتلته، من جهة أخرى، وبعد أن تجرع ما بقي في كأسه قال عبارته الشهيرة:
اليوم خمر، وغداً أمر
واستيقظ (غداً)، ليبدأ برسم خارطة الطريق التي أرادها لتقوده إلى هدف بعيد، هو الثأر لأبيه واسترداد ملكه، وتاجه الفقيدين.
سار وصاحبه (عمرو) باتجاه قيصر الروم في القسطنطينية، في رحلة طويلة، باتجاه هدف جسيم وبعيد المنال، وأخذ منهما التعب كل مأخذ، واستثقل عمرو مشقّة السفر ووعثاءه، ولم يتمالك نفسه فأجهش بالبكاء، وقد أدرك وجهتهما المبطّنة بالمجهول وبالخطر الداهم، فأخذ امرؤ القيس يخاطبه محاولاً أن يهدئ من روعه قائلا:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا
فقلت له: لا تبكِ عينُك إنما
نحاول مُلكاً أو نموتَ فنعذرا
وواصل الرحلة لا يحيد عن هدفه، حتى استطاع أخيراً بلوغ بلاد الروم، ليستقبله قيصر كما يستقبل الملك ملكاً، ويَعِده بالعون والمعاضدة لاستعادة التاج الفقيد، وأقام بضيافته مدة، ولما حان وقت الرحيل والعودة إلى اليمن؛ أهداه قيصر حلّة ذهبيّة، ارتداها؛ وهو يودعه كما يودع الملك ملكاً.
أقفل الملك الضليل امرؤ القيس راجعاً، يزهو بثوبه الذهبيّ البراق، وببارق وعدٍ، لن يضيء، بالمساعدة للثأر لأبيه.
لم يدُر في خلده مكيدة الروم وقيصر، وحقدٍهم ومكرهم، ولم يعلم أنّ حلّته الذهبيّة ما هي إلا نسيج من السمّ القاتل، تودي بمن يرتديها إلى الهلاك.
ولم يتبين هذه الحقيقة إلّا متأخراً عندما بدأ السم يسري في جسده الذي راح يتفصّد قروحاّ ودمامل، وينزّ دماً وقيحاً، وإلّا عندما راح لحمه يتقطّع، وأنفاسه تتهدّج.
أحس بالموت يقترب منه مستعجلاً يأتي على مهَل، فطفق يلوِّح بيديه، يطلب نسمة من هواء، ويخبط الأرض يستنجد بترابها، ويشير لطيورٍ تحوّم في الفضاء لعل لديها ما يعينه على البقاء.
وفي خضمّ معاناته وفظيع ألمه تلفّتَ جانباً، ليلمح قبراً لامرأة، تنبّأ أنها ستكون جارته الأبديّة، فأخذ يناجيها وكأنّها تصغي إليه قائلا:
أجارتنا إنّ المزار قريبُ
وإني مقيمٌ ما أقام عسيبُ
أجارتنا إنّا غريبانِ ههنا
وكلّ غريبٍ للغريب نسيبُ
ولكن السمّ كان أمضى من تشبثه بالحياة، فرحل امرؤ القيس (ذو القروح)، رحل الملك الضليل (حندج)، ودفن في (أنقرة) دافعاً ثمن (ثقته بالأجنبي) واستقوائه به، ليكون عبرة لكلّ من يستجلب الأعداء، ويستقوي بهم لاسترداد تاج مهلهل أو الحفاظ على كرسيٍّ هشيم) ...!
-----
ملاحظة: في الصورة أدناه، القبر الذي دفِن فيه امرؤ القيس؛ في أنقرة (من تركيا)، والذي مازال راقداً به هناك إلى يوم الناس هذا.
عصام حقي
شاعر وكاتب سوري