الفنان التشكيلي محمد صفوت


                                                             

 

محمد صفوت ابن مدينة حلب السورية، فيها فتح عينيه على قوس قزح الحياة، وعلى ألوانها السبعة، ويبدو أنه كان مجبولاً بها ولهذا بقيت كتفصيلات مؤثرة فيه، وفي إضاءة روحه وإغنائها بأحاسيس ورؤى، كان ذلك في عام 1949.

في عام 1972 حمل تلك الروح بقوس قزحها واتجه بها نحو مدينة الرقة لتشهق بألوانها هناك في نهرها الجميل، نهر الفرات الذي أصبح فيما بعد صديقه الأقرب والأعز، بل كأهم صديقين قادرين أن ينصتا لبعضهما بعضاً، وعلى امتداد ثلاثة عقود وأكثر دون ضجر وتذمر، وكل منهما يسرد حكايته للآخر، الحكاية التي لا تنتهي، بنبضها وطعنها، بصخبها وهدوئها، بعشقها وأسرارها وبكل ما يمكن أن يرتب علاقاتهما الزمكانية، وحين افترقا قسراً، واتجه صفوت نحو بيروت، بقي الفرات في بيته لم يبرحه قط، حاملاً قصبه ونايه ليعزف نشيده الحزين، وحين طال به المكوث بعيداً وبدأت سيمفونية الشوق تعزف بين خلجاته قالها بصوت عال:

  •  اشتقت لضفافك أيها الخالد، اشتقت إليك يا فرات. 

كان شوقه شوق عاشق لحبيبته، يكتوي ناراً ووهجاً، ففي الرقة ساهم مع أسماء أصبحت جلّها مهمة في الحراك التشكيلي السوري ولكل منها قامتها، (كالأخوين محمود وعبد الحميد فياض، والأخوين طلال وأحمد معلا، وفواز اليونس وعنايت عطار، وموفق فرزات، وفهد الحسن وآخرين)، في تأسيس تجمع فناني الرقة، التجمع الذي لعب دوراً مهماً وكبيراً وفاعلاً في الشارع التشكيلي السوري. 

محمد صفوت أو شيخ البورتريه، كما قيل عنه، لتفوقه فيه ويعد من كبار فنانيه في سورية، وله تلاوته في ذلك، وبمحاكاة ملائمة لإبداع خصيب يستثمره صفوت بخصوصية أسلوبية وبنائية، مستعيداً زمن التفاصيل والنسغ الدقيقة، زمن التنوع والغنى بمبادراتها، فهو وبخبرته الشخصية وتحت شروط داخلة في محيط ثقافاته وخلجانها، يواجه اختبارات في صيغ بحثية متعلقة بإشكاليات مطروحة لطموحاته وعواطفه على نحو وقائع منتجة في ذاكرة ترفض نسيان الملامح ومفرداتها، فهو يقود السرود المصورة الجديدة والموحية بتتابع للقطات تجتمع في مشهد مصور وبتقاطعات مع انتقالات في الزمان والمكان، وكأنها من شريط وسيط مؤهل لدراسة أعمق، فما يميز منتجه أيضاً قيمته المهنية الدقيقة إلى جانب قيمتها الفنية فهو الرابط بين عناصره بحذر شديد وبتعاظم وتداخل حتى تخرج وجوهه (بورتريهاته) من وطأة الرتابة، مخففاً بذلك ذرائع تقطيعاته الكثيرة وهي في بلاغتها التعبيرية غير الشائكة مع ابتداع الشخصية وصياغة مجرداتها بقناعة مفتوحة على تبطين المعنى، وتعميق الفهم والاحتفاء بجمالياته، والتي كان لها تأثيرها المميز في جيل لاحق، الجيل الباحث عن كل ما هو مختلف، الجيل الذي يسهم في إضفاء المزيد من الحيوية على المنجز الثري لتجارب السابقين الذين تتلمذوا على ريشهم وألوانهم.

الجانب الآخر الذي أجاد محمد صفوت اللعب في ساحاته هو الطبيعة ودقة الوصول إلى ذاتها، وبفهم غير اعتيادي، فهو ما زال يلعب ضمن أسس تقليدية للعمل الفني، أسس أقرب إلى حقيقة الفن من وجهة نظره على الأقل، فالطبيعة ملاذه و(ماتيس) قد يكون قدوته في ذلك، فهو في كل مرة ومع كل لوحة يغوص في العمق ليخرج كنوزها إلى السطح، ولهذا لا تحتاج إلى جهد كبير لجمع تلك الكنوز، وبانطباعية واقعية التأثير، فهو لا يغامر بالدخول إلى عوالم قد تكون غريبة إلى حد ما، وبالنسبة له، على أقل تقدير، لا يغامر بطرق أبواب يعرف سلفاً ما وراءها، ولهذا ينبض على السطح كفيضان جدير بالاكتفاء بالتأمل وبترميم ما تيسر له من فضاءات لا عقد فيها ولا غموض، وحدها المسافات الجمالية تضفي عليها أصالة لغة الواقع وواقعيته المقترنة بقيم إنسانية، وبرحابة ملامح السياقات في تطوراتها التي تمتص عزلة الأمكنة والأشجار والبراري، فهو يحيل لحظات اجتياح الطبيعة وأروقة المدينة القديمة إلى نبوءات تسوغ مآلاتها بتكوينات تحمل من العناصر ما تقوده إلى خبايا الألوان بنزعاتها التي تستجيب لعدساته واختياراتها، لالتقاط أنغامها المتداخلة لتحولات الطبيعة في زمنها، لالتقاط شذاها وبثها في فضاءاته أولاً والتي بدورها ستبثها في فضاءات متلقيه ثانياً، فعمليات الإثارة قائمة على قدم وساق ما تجعل الوعي متحرراً من كل عواقبه، وما تجعل لنسجه خطوات غوص وصعود في الحلم الجميل.

محمد صفوت فنان البورتريه والطبيعة يطرح سلسلة من زمن النشأة والتكون، وسلسلة من زمن التجاور والتلامس، وسلسلة من زمن الحركة ودفعها، يطرحها في مجموعات لكل منها عالمها البنائي التي تحتضنها، ولكل منها صياغاتها الفنية تبعاً لمنظوره الخاص، وتبعاً لرفضه أو قبوله لكل ما يتبادر إلى العين التي من شأنها أن تجعل لانبثاقاته هوية له، هوية تعرف به وبتميزه في حضوره وتنقلاته في الميادين الفنية.

 

غريب ملا زلال

كاتب سوري

 

 

Whatsapp