شرف المعرفة


 

هل ترتبط المعرفة بالبؤس وهل كلما تقدّمنا في العمر وازددنا علماً وخبرة ودراية ملنا إلى اليأس من بلوغ المعنى الأسمى من وجودنا الإنسانيّ، وإلى اليقين بعبثيّة مطاردة الحلم، وتحقيق العدالة، وبأنّ قيم الحق والخير والجمال ليست أكثر من وهم أو سراب تخدعنا به رمال الواقع المحرقة؟؟؟ 

كأنها الحياة تمشي القهقرى ماضية نحو نشأتها الأولى، وأن لا سبيل للخلاص من جحيمها المستعر إلاّ بطوفان جديد، وكأنّ ما مضى أخفّ وطأة وألماً ممّا سيأتي، لماذا إذاً نسعى إلى المعرفة وإلى الخوض في حقول الغامض والمجهول. هل ثمة لذة، على الحقيقة، في الكشف والاكتشاف مع يقيننا بمحدودية هذه اللذّة وبآنيّتها وزيفها، وأن ما يعقبها ويبقى هو الألم والخيبة، وبما يشبه الصدمة، التي تتكشف لنا بعد الإفاقة من حمى الرغبة في المعرفة وشهوة الوصول إلى العلم بما لا نعلم ؟؟

هل تتحمل المعرفة وزر من يساهم في اغتيال الروح الإنسانيّ وأبلسة الخلق والإبداع، فيستخدم العلم وإنجازاته المذهلة في تدمير الطبيعة، والاخلال بالتوازن في نظامها الذي هو شرط رقيّها واستمرارها، هل بات الطريق إلى الحفر المعرفيّ واستحصال الكنوز المعرفيّة معبّداً فقط أمام المتحكمين بالثروة والسلطة ونزواتهم الموغلة في الإجرام والطغيان، لماذا لا تمنح المعرفة ظلال شجرتها الباسقة للمحرومين وللرازحين تحت سياط الحاجة ونار الأشرار الآثمين؟؟ 

أليست المعرفة مصدر الكفاية والسعادة والرفاه لسكّان الأرض، وهي من تمكن الإنسان من امتلاك أفكار وآليات وأساليب جديدة لمواجهة المشكلات والمعوقات المحتملة وحلها وتجاوزها، وهي التي تلبي حاجة أزلية ورغبة دائمة في التجديد والابتكار والإبداع، أليست المعرفة سبيلاً لخلاص البشرية من آفات الجهل، ولتحرير إراداتها من أغلال العبوديّة ومن كل أشكال الذلّ والقهر؟؟

هل المعرفة تورث الجبن وتسلب فرسانها شجاعة المواجهة والصدع بالحقّ، ما قيمة المعارف والعلوم والفلسفات حين تجنّدها قوى غبية تقود عالمنا إلى الفناء، وكيف لأربابٍ في المعرفة والفكر والعلم أن يكونوا أدوات شيطانيّة تنفّذ أجندة المجرمين الحمقى، وتمتثل لأوامرهم وتخضع لسياساتهم، وتمنحهم الأدوات والتقنيات التي تمكنهم من قمع تطلعات الشعوب إلى الحرية والدوس على التراث الإنسانيّ الإبداعي الداعي للمحبة والعدل والسلام؟؟

هل نتهم المعرفة حين تعرّي وتفضح رموزاً كاذبة كنا نرى فيها مثالاً للنقاء والطهر والنبل والإخلاص قبل أن نكتشف فسادهم وإجرامهم وتجاوزاتهم المخلة بالقوانين والقيم والمبادئ الإنسانية؟ لقد كنا مخدوعين إذاً وقد زالت الغشاوة عن عيوننا وقلوبنا حين اكتشفنا وهم اعتقادنا بهم ومدى جهلنا بالحقيقة، هل كان الحال أفضل لو بقينا مخدوعين؟ أليس نقص معرفتنا وتقصيرنا في استخدام عقولنا وأحكامنا التي تفتقر إلى الاستدلال والبراهين الصحيحة ما ينبغي أن نوجه لها التقريع واللوم؟؟

المعرفة ضدّ الجهل، فإن كانت المعرفة وعياً وإدراكاً لمن أراد الخوض في دروبها الشاقة ومسالكها الوعرة وصولاً إلى الحقائق، وإلى فهم الأسباب الكامنة وراء الظواهر والوقائع، فإنّ الجهل يقف سداً أمام كل ما سبق، بحيث يقف الجاهل من المعرفة على ما تمدّه به الحواس من مدركات لا تختلف عن تلك التي يستمدّها الحيوان من حواسه إلا من حيث الحدّة أو الشدّة، ولعلّ المقارنة هنا ليست من مصلحة الإنسان إذ إنّ قدرات الشمّ والنظر والسمع لديه، على سبيل المثال، تقلّ كثيراً عن مثيلاتها الموجودة لدى الكلاب والصقور والذئاب. إذاً فالجهل حالة من عماء العقل تشلّ إمكاناته في التبصّر والتدبّر والتفكير بحيث يكتفي الجاهل بمستقبلاته الحسية ويسعى لإشباع غرائزه دون اكتراث بالقوانين أو بالقيم، وبغير التفات للعواقب الكارثية الناجمة عن اندفاعاته البيولوجية المحمومة. 

المعرفة مسؤولية تدفع بمن يتصدّى لحمل لوائها إلى القيام بواجب الإخلاص لشرفها، والامتثال لما تمليه من تظهير ونشر وتعميم، لا معرفة لعبد المال والسلطة، ولا علم لمن يضنّ بعلمه ولا يعمل ويتخلّق بأخلاق العالم وأدبه، إنّ أوّل مسؤوليات العارف تقديم الحقائق والقناعات التي امتلكها للجمهور والتي يرى فيها اليقين. الحقيقة غاية المعرفة وسعادة الإنسان هدفها الأسمى.

 

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي 

 

Whatsapp