منذ توقيع " معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى " بين الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية عام 1987 التي جرت في عهد الرئيسين رونالد ريغان وميخائيل غورباتشوف تنفّس العالم الصعداء وخاصة الدول الأوروبية التي كان يسودها التوتر والقلق من سباق التسلح بين الدولتين القطبين آنذاك، وبدأت ملامح الحرب الباردة بالتراجع تمهيداً لبداية مرحلة جديدة ستعيشها أوروبا في التسعينيات من القرن الماضي مع انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي، لترث روسيا الإتحادية ماخلفه الاتحاد السوفياتي من معاهدات واتفاقيات.
ثم تلتها اتفاقية " الأجواء المفتوحة " عام 1992 التي دخلت حيز التنفيذ عام 2002، وهي تتضمن السماح للدول الموقعة بتسيير رحلات طيران غير مسلحة في أجواء الدول الأعضاء بغرض المراقبة وجمع المعلومات العسكرية شرط اطلاع الطرف الآخر بكل تفاصيل الرحلة بما فيها الصور. ما يعزز الثقة بين روسيا وباقي دول حلف الناتو ويبدد مخاوف الطرفين، ولكن دخول القوات الروسية إلى الأراضي الأوكرانية والاستيلاء على جزيرة القرم وضمها عام 2014 أعاد التوتر من جديد بين روسيا والناتو ثم تلاه مغامرة بوتن في سورية لدعم نظام الأسد ضدّ ثورة الشعب السوري نهاية 2015 لتعود ذات الأجواء التي ميزت حقبة الحرب الباردة ولكن بشكل مختلف كان المعلن عنها هو العقوبات الاقتصادية التي طبقتها أميركا والدول الأوروبية على روسيا الاتحادية ومن ثم تبعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإعلانه الانسحاب من اتفاقية الأجواء المفتوحة في عام 2020 مبرراً الانسحاب بعدم التزام موسكو ببنود الاتفاقية ما دفع روسيا لاتخاذ إجراء مماثل هذا العام، ومع اقتراب موعد اللقاء بين الرئيسين ( بوتين ـ بايدن) المزمع عقده في جنيف يوم 16 يونيو الحالي قام الرئيس بوتين بالمصادقة على انسحاب بلاده من معاهدة " الأجواء المفتوحة" يوم الاثنين 7 يونيو الحالي مما يعطي انطباعاً مسبقاً عن الأجواء التي ستسود في لقاء القمة المرتقب.
قد يتبادر إلى الذهن بأن بوتين الغارق في سورية بلا آفاق قريبة تنم عن حلحلة للاستعصاء الحاصل في القضية السورية، وإصرار النظام على عرقلة أي جهد باتجاه الحل السياسي المنصوص عليه في القرار الأممي 2254 ، قد دفع بوتين لهذه الخطوة لحرف اللقاء عن قضايا ملحة للتهرب من مناقشتها أو على الأقل عدم منحها الوقت الكافي للوصول إلى اتفاق، ولعل تصريح نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف أن إجراء انتخابات مبكرة في سورية خيار محتمل الذي جاء بعد الانتخابات الهزلية التي أجراها الأسد وإعلان فوزه على منافسيه "الكومبارس" بنسبة 95.1% ، لعلّه جاء لتبريد الملف السوري في لقاء القمة وأن روسيا ليست متمسكة بالأسد على حساب العلاقات مع الغرب وخاصة الولايات المتحدة، ولكن الأميركان الذين يتقنون فنون الدبلوماسية لن تمرّ هذه التكتيكات عليهم، هذا إذا علمنا بأن الإدارة الأميركية كانت قد أبلغت موسكو الشهر المنصرم أنها لا تريد العودة إلى معاهدة " الأجواء المفتوحة" بإشارة منها بأنّها لن تدرج هذا الملف في المباحثات القادمة بين الرئيسين.
يحاول المراقبون استشفاف ماهي الملفات التي سيتم تناولها في القمة المقبلة وهل ستفضي إلى نزع فتيل التوتر بين الدولتين أم زيادة في تدهور العلاقات، ما يدفع الرئيس بوتين إلى مغامرة عسكرية أخرى، تغرقه أكثر وتزيد من عزلته وتفاقم من وضعه الاقتصادي المتدهور أصلاً ؟ كونه لا يمتلك سوى الذراع العسكرية لتكريس حضوره على الصعيد الدولي كما فعل في سورية وليبيا وأرمينيا ولم يحصد سوى الفشل ورصيداً هائلاً من جرائم الحرب.
الرئيس الأميركي الحالي (جو بايدن) لم يعرف عنه أي نشاط خارج العمل السياسي وهو قد شارف على الثمانين من العمر قضى معظمها في عالم السياسة وشغل منصب نائب الرئيس في عهد أوباما لن يكون سهلاً التعامل معه في ملفات على درجة بالغة من الأهمية لها علاقة بالاقتصاد والمناخ والتدخل في الانتخابات الأميركية، بالإضافة لقضية ضم شبه جزيرة القرم، والانتخابات السورية التي جرت رغم إعلان الاتحاد الأوروبي وأميركا بأنها غير شرعية وتتناقض مع قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن .
ما أستطيع قوله الآن هو أن لقاء القمة المرتقب لن يكون ودياً، وقد لا يُفضي إلى أي اتفاق بسبب تعنت بوتين وعدم حماسة بايدن في منحه انفراجاً بأي من الملفات الساخنة في وقت أصبحت فيه روسيا مأزومة داخلياً بشكل يهدد مصير بوتين السياسي الذي يطمع بالبقاء في الحكم لغاية 2036.
ياسر الحسيني
كاتب سوري