لقد جسّد الحراك المدني الشعبي الذي شهدته مدينة منبج منذ 31 أيار/مايو الماضي، وما تزال تداعياته السياسية والأمنية قائمة حتى الآن، تعزيزاً لقناعة راسخة تؤكّد أن الثورة التي أطلقها السوريون في آذار/مارس 2011 هي أكثر قوّةً وأقدر على البقاء من مظاهر الدمار والخراب الماثلة أمام العالم، لعله من الصحيح أن السوريين قد ضحّوا بأكثر من مليون شهيد، وربما أضعافهم من الجرحى والمصابين، وأمثالهم من المعتقلين، فضلاً عن الملايين من المهجّرين والنازحين داخل سورية وخارجها، إلّا أن هذه التضحيات الهائلة جميعها التي أورثت بؤساً شديد القساوة، لم تؤدِّ إلى إطفاء جذوة الثورة، ولم تتمكّن من تقويض إرادة السوريين وتطلّعهم إلى التحرر، بل يمكن القول: كلّما ظن العالم أن الثورة اندثرت تحت ركام الدمار الهائل في سورية، وتشظّت تحت نير سلطات الأمر الواقع، يفاجئهم السوريون الأحرار بأن مارد الثورة المتجذّر في النفوس هو عصيٌّ على الاندثار والامّحاء، وأن معاني الثورة هي كالجذوة الكامنة تحت الرماد، تبقى تستعر وتتقد، ما دامت سورية بلداً محتلّاً وأهلها مقهورون.
مدينة منبج هي إحدى المدن السورية، وأهلها هم جزء من النسيج السكاني السوري، ولئن كان من الصحيح أنها تخضع لسلطة حكم واقع، كغيرها من أجزاء الجغرافيا السورية، بحكم تقاسم النفوذ الدولي، ولكن تبقى تطلعات أهلها مشدودة إلى الجذر الذي اتحدت حوله تطلعات جميع السوريين الذين انتفضوا على الظام وطالبوا وناضلوا من أجل سورية حرة كريمة خالية من الظلم والاستعباد، أضف إلى ذلك، أن انتفاضة أي مدينة سورية بوجه الطغاة، إنْ هي إلّا تعبيرٌ عن إرادة السوريين جميعاً ورفضهم لحياة العبودية والذل، ولكنّ السؤال الذي يباغتنا جميعاً، بل ويُحدث في النفوس مرارة موجعة هو: لماذا – على الغالب – لا تُستثمر صلابة الموقف الشعبي في دعم وتقوية أوراق القضية السورية في المحافل الدولية والمسارات السياسية؟، ثم لماذا نجد فجوة كبيرة من حيث الأدّاء والصلابة بين الموقف الشعبي العفوي والأداء السياسي لكيانات المعارضة السورية؟ لقد شهدنا انتفاضات عديدة لأكثر من مدينة وبلدة سورية،( السويداء وإدلب ودرعا على سبيل المثال) وكانت هذه الانتفاضات – بمضامينها الرائعة تجسّد امتداداً للمضامين الثورية التي شهدناها في بداية الثورة، أي في الطور المدني السلمي، إلّا أن هذا الاكتناز الثوري الشعبي الذي يزداد تجذّراً في النفوس على الرغم من استمرار المأساة السورية، لم يجد ما يوازيه أو يكافئه لدى الكيانات الرسمية للثورة، بل غالباً ما كان الفعل الرسمي للمعارضة خاذلاً للنشاط أو الحراك الجماهيري العام، ولعلّ هذه الإشكالية الكبرى تكشف إلى حدّ بعيد تشعّب الحالة الراهنة في منبج ، كما تفسّر من جهة أخرى، ندرة الخيارات المتاحة أمام الجمهور الثائر، الأمر الذي يجعل التضحيات أكثر من الحصاد في الغالب الأعم.
بدأ الحراك في منبج سلمياً عفوياً شعبياً، كما كان في الطور الذهبي للثورة، منادياً بمطالب مُحقة ومشروعة، ومحتجّاً على مجمل السياسات الاقتصادية والأمنية الجائرة التي تمارسها قسد بحق المواطنين، واستطاع أن يحافظ على سلميته ونقائه على الرغم من ردّة فعل سلطات قسد باستخدام الرصاص والعنف، وكذلك على الرغم من سقوط خمسة شهداء، وأكثر من عشرين جريحاً، الأمر الذي أحرج سلطات الأمر الواقع، ودفعها إلى دعوة المتظاهرين إلى التفاوض، واعدةً بالاستجابة لمطالب أهل المدينة، وكان من الممكن جدّاً أن تسير عملية التفاوض بنجاح، ويحصل المواطنون على جزء كبير مما يطالبون به، ولكن غياب المظلة السياسية الوطنية عن قيادة هذا الحراك وتوجيهه، والتعبير عنه سياسياً، قد أضعف قوّة الحراك من جهة، كما جعله عرضةً للاختراق، ومن ثم الانزياح عن مساره المنشود من جهة ثانية، ذلك أن سيطرة قسد على المدينة منذ صيف 2016 لم تكن بعيدة عن رغبة نظام الأسد الذي تحاصر قواته المدينة من جهتي الغرب والجنوب، بالانقضاض على المدينة، وبالتالي إخضاعها لسيطرته، وهي في سبيل ذلك، لم يدّخر أي فرصة تتيح له الانقضاض، وذلك بفضل النفوذ الذي يُتاح لأزلامه وشبيحته للتحرك والنشاط داخل المدينة، تحت أنظار سلطات قسد التي لا تنظر إلى النظام باعتباره عدوّا جذرياً للسوريين وسبباً في استمرار مأساتهم، بل ربما كان الموقف المتقارب بين قسد والنظام، ذلك التقارب الذي برهنت عليه سلسلة طويلة من التفاوض الذي أوشك على الاندماج أحياناً، أقول: ربما كانت العلاقة المشتركة بين قسد والنظام هي أداة الضغط الرئيسية على المتظاهرين، وذلك من خلال تلويح قسد بتسليم المدينة للنظام إن أصرّ المتظاهرون في رفضهم لسياساتها الجائرة، أي : إما أن تقبلوا بنا كما نشاء ونريد، وإمام سنفتح أبواب المدينة أمام قوات النظام وميليشياته الإيرانية، وما يعزّز هذا التهديد والابتزاز اللاأخلاقي، هو دخول عدد من شبيحة النظام ومواليه واختراقهم لمفاصل الحراك، ودعواتهم المتكررة إلى التصعيد وحمل السلاح تحت شعارات تحرير منبج من المحتل الأميركي، ولكن لا تعني في جوهرها سوى الدعوة الصريحة لاستجلاب قوات النظام الإجرامية.
ثنائية التنافس بين قسد ونظام الأسد أسهمت في تضييق الخيارات بل ندرتها أمام المتظاهرين، فهم إمّا أن يقبلوا بالتهادن مع سلطات الأمر الواقع، ويوافقوا على ما يحصلون عليه، وبما ينسجم مع سياسات قسد، وإمّا أن تبقى المدينة عرضة لابتزاز قوات النظام باجتياحها، ويبقى العامل الأقوى في إضعاف الحراك الثوري في منبج هو غياب الطرف الثالث، أعني غياب ( المظلة – المشروع ) الوطني الذي من المفترض أن يكون حاملاً لتطلعات الثورة، ذلك أن غياب الإطار الثوري من شأنه أن يسهم في بعثرة التضحيات وتشتتها من جهة، كما يسهم في تعزيز الإحباط والشعور باللاجدوى لدى المنحازين للثورة من سكان المدينة.
لقد انتفضت منبج بوجه نظام الأسد في آذار/مارس 2011 ، وتحررت من سطوته في تموز/يوليو 2012 ، كما انتفضت بوجه داعش في تشرين ثاني/نوفمبر عام 2013 وتمكنت من طرده، وها هي تنتفض مرة ثالثة بوجه قسد، ولكن يخذلها غياب البديل المتماهي مع انتفاضتها من حيث الأهداف والتطلعات، لعله الشعور ب (اليتم السياسي) الذي لم يعد يخص منبج وحدها، بقدر ما غدا سمةً عامة للسوريين.
حسن النيفي
كاتب وباحث سوري