وزيرٌ لا كالوزراء، ونموذج فريد خالد لقيم النبالة ولأخلاق الفرسان، إنّه يوسف العظمة الذي كان وزير الحربيّة (الدفاع) بحكومة الملك فيصل الأول ملك سورية قبل الاحتلال الفرنسي 1920.
يوسف العظمة الذي وقف بكبرياء أمام حكومته حين أذعنت لإنذار (غورو) الشهير وبنوده المهينة، وأعلن رفضه له وتمرّده على الملك، وهبَّ خارجاً من الاجتماع مردّدا بيت المتنبّي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتّى يُراق على جوانبه الدم
وراح يلملم بقايا جيشه المسرَّح وبضع مئات من المتطوعين استعداداً لمواجهة جيوش فرنسا الزاحفة صوب دمشق، مع يقينه أنْ لا قِبَل لهم بمواجهة دولة عظمى كفرنسا المنتصرة بالحرب العالمية الأولى؛ ولكنّه وكما قال:
(يخشى أن يُسجّل في كتب التاريخ أن المحتلّ دخل عاصمته دون مقاومة).
امتشق ورفاقه ما تيسّر لهم من عدّة وعتاد على ُشحِّه؛ وساروا للذود عن الحمى المهدّد، والوطن العزيز، ليلتقوا جحافل الغزاة المحتلين وطيرانهم ودبّاباتهم في ميسلون بظاهر دمشق.
ودارت رحى المعركة، ورغم عدم التكافؤ الواضح بين الطرفين، فقد استبسل الأبطال بالدفاع عن أرضهم حتى الشهادة، وحتّى ظلّ يوسف العظمة وحده في الميدان.
لم ينكص على عقبيه، ولم يتراجع، بل حمل عليهم ببندقيته الفرديّة غير هيّاب ولا وجل؛ ناذراً فداء الكرامة آخر طلقة معه وآخر نقطة دم بعروقه، ليستشهد بشرف على سياج الوطن قائلاً:
سأقوم بواجبي ولست خائفاً على نفسي؛ إن لم نكن أحراراً فوق الثرى، فلنكن شهداء تحت التراب.
وكما سطّر الشهيد هذه السطور في ملحمة العزّة فقد خلّدها الشعراء بملاحم أدبيّة كبرى ولعلًّ في مقدّمها ما جاء على لسان أمير الشعراء أحمد شوقي بلاميّته الكبرى ومنها:
سأذكر ما حييتُ جدار قبرٍ
بظاهر جلّق ركب الرمالا
مقيم ما أقامت ميسلونٌ
يذكّر مصرع الأسد الشبالا
(جلّق: دمشق)
ولعل الشاعر (عمر أبو ريشة) في بائيّته الذائعة الصيت خير من دَوّن معركةَ ميسلون، والحقبةَ الوضّاءة من التاريخ السوريّ التي أدى فيها الأبطال يومئذٍ واجبهم دون خوف أو تردّد، وبغضّ النظر عن نتائجها:
كم لنا من ميسلونٍ نفضت ْ
عن جناحيها غبار التعب ِ
شرفُ الوثبة أن ترضي العلا
غلب الواثب أم لم يغلب ِ
وكان للشاعر السوري الكبير خليل مردم قصائد في يوسف ورفاقه الشهداء ممّن شكّلوا أوّل سدّ بشري في مقاومة المستعمر المحتلّ، ولعلّ من أجملها هائيّته التي جاء فيها:
أيوسفُ والضحايا اليوم كثر ٌ
ليهنكَ، كنتَ أوّلَ من بداها
زكا نبت البلاد وليس بدعا
زكيّاتُ الدما كانت حياها
هي صفحة من تاريخنا مشرقة، ومشرّفة لم يحفل فيها العظمة الوزير بكرسيّ الإدارة أمام كرسيّ الكرامة، كرامة الوطن.
صفحة الوزير الشهيد الذي استبدل بالذل والعار مجداً وكرامة، صفحة يوسف العظمة الذي رفض بيع الوطن لغازٍ محتلّ، بل كان يخشى أن يسجل كِتاب التاريخ أن العدو وجد سورية قلعة بلا مقاومة، قلعة مفتوحة الأبواب لمن أراد استباحتها بإذن من حاكم مهزوز ...!
صفحة يوسف ورفاقه الأبطال ممّن نذروا (كما قال عمر أبو ريشة) دمهم مهراً لحريّة قادمة لاريب فيها:
قد عرفنا مهركِ الغالي فلم
نرخصِ المهرَ ولم نحتسب ِ
وأرقناها دماء حرّة ً
فاغرفي ما شئتِ منها واشربي
وفي الختام لابد من الإشارة إلى أنّ إحدى الحكومات السورية (ربما في تسعينيّات القرن الماضي) قامت بهدم بعض أحياء دمشق القديمة، وكاد هذا الهدم العشوائي أن يتطاول على بيت يوسف العظمة نفسه، ما دعا إلى حملات استنكار ورفض لهذا التهوّر، نظراً لأهمية هذا المكان كقيمة تاريخية وكرمز لبطل وبطولة، فاضطرت الدولة معه للتراجع عن قرارها، وأبقت على البيت الذي تحوّل لاحقاً إلى متحف شخصيّ لمقتنيات البطل الشهيد يوسف العظمة.
عصام حقي
شاعر وكاتب سوري