لنتعلم من الطبيعة المتوحشة


 

كيف يمكن للإنسان أن يكون عدوّاً لأمّه الأرض وهو المخلوق من صلصال وماء، كيف لروحه دون الريح أن تمرح في الفضاء، وبغير النار التي تطهّره من رجس الخطيئة هل بمقدوره أن يمضي نقيّاً إلى غاية الخلق؟؟

التراب، الماء، النار، والهواء، ثمة تناغم وانسجام وتفاهم بين العناصر الأساسية المؤلفة للكون، كذلك ثمة اتصال وتواصل، واشتجار هو أقرب للعناق بين الكائنات والحيوات التي تنتج عن لقاء هذه العناصر وتلاقحها، دورة كاملة للحياة وقل معزوفة سماوية أزلية تملأ أصقاع الكون بالضوء والموسيقى، تدعو ساكنيه إلى الرقص والفرح والاحتفال بالحياة.

لا أعتقد بوجود تضادّ أو خصام بين مكونات الطبيعة ولا بين العناصر التي تتألف منها موجوداتها، لا قطيعة ولا حدود فاصلة بينها، ولعلّ ما يتبدّى لنا انفصالاً ما بين ماء الشاطئ وبين الرمل أو ما بين الأشجار والتربة محض وهم، خيوط حريرية خفية تشدّ الموجودات إلى بعضها بما يجعل وجود أحدها امتداداً لوجود الآخر، صلة تشبه تماماً تلك التي بين الجذور والأغصان والأوراق والثمار، بل إنّ التداخل والاتصال بين عناصر الطبيعة يصل إلى مرحلة التمازج والاندماج. إنّ القوانين التي تنظم مخلوقات الطبيعة وعناصرها، وتتصرف في حيواتها ومصائرها، محكومة بمبادئ صارمة أساسها التوازن وعنوانها التكامل. 

إنّها فطرة الخير التي غرس الله شتلتها في قلب الإنسان وألهمه السبل إلى سقايتها ورعايتها لتنمو وتشتدّ وتظلّل حياته وعوالمه وآفاق رؤيته وتفكيره، فتمنحه الرغبة بالحبّ لجميع من وما حوله، وتحضّه على تقصّي الجمال وألوانه المتناسقة المزركشة المبهجة...

من أيّ الأبواب إذن يقتحم الشرّ جنّة الإنسان المترعة بالخير وبكل أسباب السعادة الأبدية، ما الذي يمكّنه من أن يتملك ساحات الأعراس ويحيلها إلى مآتم تنضح بالألم والدم، كيف لقوى الخير، وهو الفطرة والأصل، أن تخور ولعزيمة البناء أن تتبدّد أمام هذا الطارئ المنبوذ الموعود حامله والعامل به بالعذاب وبالحرمان من الرحمة والمغفرة. كيف للخير وهو الخيار الحرّ، بله مطلق الحرية أن يتقهقر أمام قيود العبوديّة والذلّ؟؟

إنّه السقوط في مستنقع الغفلة والتجديف في وحل الخطيئة ما يدفع للتمرّد على الطبيعة والفطرة الإنسانية النقيّتين، والانسياق وراء الشهوات النابية المحرّمة. إنّه الوهم، وهم القوّة والتفرد ما يحرف الفكر ويسوقه إلى الزهوّ والضلال، وإلى اختلاق أسباب زائفة للتفوّق والسموّ لمخلوق على الآخر تبرّر له السيطرة عليه والتحكم في مصائره ومحاولة امتلاكه وتجريده من حقوقه الأصيلة.

التضادّ بين قضيتين ينفي إمكانية التصالح والتعايش بينهما، ويعني بطلان أحدها على الأقلّ، كذلك التنازع بين الحق والباطل، وبين الخير والشرّ، إنما هو في حقيقته صراع وجودٍ انتصار أحدهما المطلق فيه يعني فناء الآخر، إنّ استسلام طرف منهما وإقراره بالهزيمة سيودي بوجوده، إذن فالصراع قائم ومستمرّ طالما أن طرفاً فيها لم يقض على الآخر، ولن يستطيع، لحكمة أرادها الخالق.

الحياة على الأرض وفي هذا الكون الفسيح هبة للكائنات جميعها. الطبيعة أيضاً نالت هذه المنحة وهي ليست بمنأى عن عبث الإنسان وجوره، مع ذلك تجاهد للبقاء وقد أتقنت ممارسة فنونه بما تملك من قدرة على التجدّد والبناء والارتقاء.

إذا كنا، نحن الموصومين بالإنسانيّة والعقل، قد فشلنا في أن نخلص لفطرتنا، ولم نصن الأمانة أو ننهض بالمسؤولية التي تنطعنا لحملها كما ينبغي لعاقل، فلا أقلّ من أن نتعلّم من الطبيعة المتوحشة ومخلوقاتها، الأكثر تعقلاً فيما يبدو، علينا أن نستلهم سنن الورد وحكمة الغيم وأنفة الذئب وغيرته..، علينا نحن البشر أن نتقن لغات الطير والأمواج والشجر، أن نعيد اكتشاف أبجديّة الوجود وقوانين الكون الأزليّة علنا نستعيد وعينا الغائب، ونرمّم أرواحنا المتصدّعة، علينا إعادة صياغة دستورنا الإنسانيّ وأن نطبّق تعاليمه بما يحقق معادلة عادلة تضمن بقاء الإنسان.

 

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي

Whatsapp