بعد الكساد الكبير 1929 والذي أرخى بظلاله على العالم طيلة الثلاثينات من القرن الماضي وجرّ العالم إلى حرب عالمية، كانت الحاجة إلى نظام إقتصادي عالمي أكثر استقراراً لإبعاد شبح الحرب من أن يعصف ثانية بعد أن كلّفت الحرب العالمية الثانية ملايين من الضحايا ودمار ثلث أوروبا وقنبلتين ذريتين ، فجاء نظام " بريتون وودز" الإقتصادي 1944 ليعاد العمل بالمعيار الذهبي من جديد وهو ربط العملات بالذهب لتصبح سمات الاقتصاد:
1ـ حركة رأس مال منخفضة ، تسيطر عليها الحكومات إلى حد كبير.
2ـ أسعار صرف العملات مستقرة جداً.
3ـ الاستقلال النقدي للحكومات لإدارة اقتصاداتها الخاصة بالطريقة التي تريدها عالية .
ولكن منذ أوائل السبعينات بدأ الحديث عن أزمة الرأسمالية وضرورة البحث عن أفكار جديدة للخروج من حالة الشعور بالضيق، فظهرت أفكار ثورية مثل الليبرالية الاقتصادية والتي تعتمد على فكرة التحرر من سيطرة الحكومات على الاقتصاد.
وكان أكثر المتحمسين للدفاع عن الليبرالية الاقتصادية في تلك الفترة عالم الاقتصاد الأميركي (ميلتون فريدمان) الحائز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية 1976، وفي مقابلة على التلفزيون الرسمي في نيويورك في برنامج " العقل المنفتح" 1975 قال:
" أحد الأخطاء الكبرى هو الحكم على السياسات والبرامج بنواياها وليس بنتائجها"
انهار نظام بريتون وودز في السبعينات وكان الحل هو اللجوء إلى مايشبه المعيار الذهبي مع حرية أكبر أي:
ـ المال يتحرك بحرية لجلب الاستثمار الأجنبي.
ـ أسعار صرف مستقرة.
ـ التخلي عن الاستقلال الوطني في إدارة الاقتصاد من قبل الحكومات وتغيير سياساتها لجلب الاستثمارات.
كانت الطريقة التي تغيرت بها الرأسمالية العالمية في السبعينات والثمانينات تعتمد على نظرية الاستحالة التي يفسرها الاقتصادي الكندي الفائز بجائزة نوبل " التذكارية" في الاقتصاد 1999، وقد توفي مؤخراً في مدينة سيينا /ايطاليا عن عمر يناهز التسعين، وفي تفسيره لنظرية الاستحالة افترض نوعاً من الثلاثية ( حيث تحدد ثلاثة أهداف افتراضية، مع ملاحظة تحقيق هدفين فقط منها في أي نظام مالي تصممه) على سبيل المثال : الأهداف هي : 1ـ حركة رأس المال 2 ـ استقرار أسعار الصرف 3 ـ الاستقلال النقدي.
ففي نظام المعيار الذهبي كانت حركة رأس المال كبيرة وأسعار الصرف مستقرة، ولكن الاستقلال النقدي ضعيف جداً، لأنّه مع معيار الذهب يعني وجوب انتقال الذهب من بلد إلى بلد آخر.وإذا لم يكن لديك مايكفي من الذهب فإنك ستضطر إلى تغيير أسعار الفائدة للحصول على كمية إضافية من الذهب، وهذا يعني أنك أصبحت مقيداً بالآخرين الذين يملكون الذهب، فتفقد جزءاً من استقلاليتك في توجيه اقتصادك الخاص.
لابد من التضحية بهدف من الثلاثة لتحقيق الهدفين الآخرين إذ لا يمكن تحقيقها في أي نظام مالي، وهذا ما حصل في فترة الثمانينات بعد أن باتت المشكلة ضاغطة بشكل كبير حول قضية أثارها الأوروبيون بوجه الأمريكيين: " كيف يكون لديك معيار ذهبي وتريد طباعة كميات أكبر من العملة الورقية؟".
ولذلك كان لابد من إيجاد طريقة يتم فيها إدارة مقدار الأموال الورقية بين عدد محدود من الحكومات الرئيسية التي تزود العملات الاحتياطية من أجل التبادل التجاري العالمي، وهذا يعني ضوابط نقدية مشدّدة يديرها مصرفيون أميركيون وأوروبيون ومصرفيون مركزيون يابانيون. وكانت النتيجة: ـ إيجاد عالم ناشئ يزداد فيه تنقل رؤوس الأموال بشكل أكبر على حساب الاستقلال الوطني في إدارة الاقتصاد وتتحول أسعار الصرف من حالة عدم الاستقرار إلى صعوبة الاستقرار لأنه ليس نظام ذهب حقيقي.
لكن عندما حصل الركود الاقتصادي العالمي 2008 الذي أدى إلى انخفاض كبير جداً بأسعار النفط 39د $ دولاراً للبرميل بعد أن كان قد وصل إلى أرقام قياسية $147 بسبب دخول معظم الاقتصادات العالمية القوية في حالة الركود ابتداءاً من بريطانيا وألمانيا واليابان وحتى الولايات المتحدة الأميركية. بدأت تظهر أفكار ثورية لا تقل عن ثورة الإتصالات والإنترنت في تغيير الكثير من أنماط التعامل الاقتصادي بين الدول وحتى الأفراد، فكانت تقنية البلوك شين( BLOCKCHAIN ) هي القاعدة التقنية الثورية التي فتحت الباب على مصراعيه لترجمة مفهوم العملة الرقمية إلى واقع اقتصادي ملموس أخذ يجذب العديد من رجال الأعمال والشركات أو المجموعات المالية النشطة في أرجاء العالم، وجاء أول تطبيق عملي عام 2008 للعملة الرقمية ( BITCOIN ) التي أصدرها ساتوشي ناكوموتو ليعلن بداية عصر جديد للتبادل التجاري غير المسبوق.
ياسر الحسيني
كاتب وإعلامي سوري