الغموض وكونيّة العميق


 

الكون كائن وأزلي، والوجود عابر على أبديّتهِ، وكلاهما أتيا من غامضٍ أعلى وبعيد. 

فالعابر الأبدي أو الأبدي العابر لا يمكنه كشفَ الأزليّ الكائن، لأنّهُ أحدُ تجلياتِه.

والوجود العابر بكلّ محاولات معرفته وكشوفهِ العلميةِ لأسرار الكون والوجود والحياة التي نحيا، لا يمكنه أبداً وبكلّ أجوبته تفسير الأزلي الكائن أيّ الكوني الغامض، ولا يملكُ المقدرةَ وإن اعتقد وتوهّم انّه يستطيع (على قولة المناطقة في الجزئيات التي تحمل صفة الكليات) ومع ذلك يكفي العلم شرف المحاولة، مع ضرورة إدراكه بالاستحالة .. لأن العواطفَ البشرية وتحولاتِها، وتفاعلاتِها لا يمكن تفسيرها وإن رُصِدتْ تمظهراتُها، والاختلافُ بين تلك التمظهرات أو التجليات التي تصدر عنها ..

والعلوم الإنسانية، والعلوم البحتة التي قام بها البشر، وأوجدوها للتبرير، والتعليل، وادّعاء الإحاطة والمعرفية الكونية، والوجودية والبشري، ماهي إلّا تواضعات ونظريات وقوانين ضمن الرصد البشري للزمن، والمسافات، والأعمار، والأبعاد بين الكون والكائن، والوجود وموجوداته.. وما هي إلا معايير اصطلاحية أرضية، متتابعة، وضمن معرفة وعقلانية ونسبية الأرضي العابر، ويمكن ألا تكون شيئا في كواكب أخرى أو عوالمَ أخرى، أي يمكن تماما أن تكون في عوالم أخرى وكواكب أخرى، حيواتٌ من طبيعة مختلفة، وكائناتٌ بحسب تلك الطبيعة الخاصة بها، وتكون لها قياساتها وعلومها ومعرفتها هي، واتصالاتها مع الوجود والموجودات والكون والكائنات من خلال وسائلِها هي، وأبدا لن تكون على غرار قياساتنا، وعلومِنا، وطرقِ استدلالِنا، ووسائلِ اتصالنا، مثل (اصطلاح الدقيقة الضوئية وقوانين الجاذبية، والثقل والنسبية الأرضية) ..فهذه محض أرضية.. ومناسبة لطبيعة الأرض التي وجدنا عليها، وهي أمنا التي نحن وهي من طبيعة أرضية.. 

اذاً ما الحل لفهم الغموض في العواطف البشرية، والعلاقات المستترة والظاهر منها بين البشر، والتحولات التي نراها ونستهجنها وفق معارفنا ومحدودية علميتنا؟

لا جواب: 

أنا معني بالسؤال وليس بالأجوبة الجاهزة والخطابية الانشائية المناسبة لعقول، وفهوم تقتنع بالأجوبة السريعة وتعتقدها وجبة عظيمة وعلما عظيما، نعم إنها لا تغطي إلّا سطوح الأشياء. 

من هنا فإن غموض الشعر مثلا أو الفن التجريدي أو الموسيقي أو تحولات العشق بين المكابدة والمجاهدة، والصبر والانسلاخ عنه، هي ما يناسب أحوال العشق أو الانكفاء أو لغز الولادة والموت أو لماذا يستوطن الشر في نفوسٍ معينة، أو يعمر الحب والسلام نفوساً أخرى.. 

كل ذلك هو جزئية عظيمة وقائمة ولا تحل بالوضوح السطحي، أو الانشائي أو الوصفي الخارجي، بل بأن تعاش وتستسر كالصلاة..

ملاءات الشعر البيضاء

أعترف أنني ماكنت يوما أدركُ سرّ زهرة الياسمين

وملاءاتِ الشعر وهي تغطّي كل شيء

وسرّ عيني حبيبي

وسرّ سرحةِ الغزال

وسرّ عوالم حزن الفرس في عين ملتمعة بالآباد

وسرّ انكشاف ساقِ صبيةٍ وهي تخطف قلبي..

ولا جوابا شافيا عن سؤالي العاشق المنهنه

بالسّكر 

زهرة ياسمين

والملاءت البيضاء

رأيت الشِّعْرَ في صباحٍ شتوي

بملاءات بيضاء ثلجاً يغطّي كل شيء

الشّعرُ الحزينُ مثلي

المفعمُ بالرغبات والمطر ومهاري الريح 

بل بثمار الكرز الواحمِ

ملاءاتٍ بيضاء تغطي الأشجارَ والبيوتَ وكلّ شيء إلّا وجهَ حبيبي

إلّا شبابيكَ بيته المضيئة بقدسية

قبّة النور وهي تتجلّى في رئمينِ يهتزّان ليقضما قلبي 

أذكرُ في ليالي الصيف البعيدة

كنّا ننامُ على السطوح

تحت ملاءة بيضاء

هرباً من لسعِ البعوضِ الداشر 

كنّا نتبادل تحتها العناقات والقبل

وكنّا نغتلي في قهوة أجسادٍ بالزّحن والأكلان 

رأيته.. الصباح المغطّى بالشِّعرِ الآن

في صباحات الميلاد والرغبة 

بأجراس كنائس بيت لحم

وشجرةِ العطشان 

وكانَ المسيح يقطعُ المسافةَ بين فلسطين وشام

يمشي على الثلج

حافياً بوجهٍ عاشقٍ وعينين مضيئتينِ بأزهارِ اللوز والكرز

وكان كبّاد بيتنا على فرسِه يتلألأ

وفي لحظةٍ غامرة من حلم

ومن صلاةٍ

ومن ملاءاتِ الثلجِ التي تُغَطّي كل شيء

رأيتُ وجه حبيبتي في ابتسامة المسيح الحزين

وهو يمسح على بيوت سورية وفلسطين ينثر عليها ندفاً من شقائقَ وثلجٍ

وهو يصعد إلى السماء

حافيا معانقاً صبية

بشعرها الطويل

وكانت على وشكِ الذبيحة 

ولا أعلمُ لمَ ظلّ ذلك الصباح من الشعر وذلك البرد العظيم بموسيقى

 ووجهُ المسيح يسكنُ قلبي

وأنا معلْقٌ بأجراس باب توما

ومآذنِ الأمويّ

وعبد الباسط يقرأ في صباحِه الغامضِ سورةً من قرآن الخلق وهو يصدح: وبرّا بوالدتي ولم أكن جبّارا شقيا.

وأرى الشامَ بكلّ جنوناتِ عشقها

وغموضِها

وهي تقرِصني من الرّوح

وتقولُ ضُمّني يا كسلان

اصعدْ بي درجَ الورد 

وخذني كما المسيحِ

بملاءاتٍ بيضاء.

 

 

حسان عزّت

شاعر وكاتب سوري     

 

Whatsapp