جبال الخوف


 

(واقعيّة حدثت منذ أكثر من أربعين سنة)
 

لم يكن ذاك الصباح اعتياديّاً في معهد المعلمين الذي كنت مدرَّساً به، في مدينة القنيطرة بالمملكة المغربيّة، إذ لم ينتظم الطلاب والطالبات في قاعاتهم كما جرت العادة، كما لم يكن المدرسون في قاعة استراحتهم كما هو مألوف، وثمّة هرج ومرج في ظرف طارئ استثنائيّ لا نعرف سببه، لقد كان الجميع في ساحة المعهد وقد شكّلوا حلقات حواريّة يتداولون فيها بأمر ما، الإضراب العام كما علمنا فيما بعد. 

انضممت بالطبع لمجموعة المدرّسين العرب، وكنت السوريّ الوحيد فيهم، فاتّضح لي من حديثهم أنه إضراب عام للمعلّمين المغاربة، وعلى مستوى المملكة كلّها، للمطالبة بحقوقهم المشروعة كما جاء في بياناتهم.

فَرِحت كثيراً، لا لتعطيل الدراسة، بل لأنّي سأشاهد الإضراب على الطبيعة للمرة الأولى في حياتي من جهة، ولأن الإضراب كان من المفردات التي حذفها الاستبداد من قاموس حياتنا من جهة أخرى. 

كان الأستاذ «بلخير» من معلّمي المدرسة الابتدائيّة التطبيقيّة الملحقة بالمعهد وهو مسؤول المدينة عن هذا الإضراب كما علمنا فيما بعد.

وها هو ذا يتّجه إلى مجموعتنا، ليشرح لنا، وبإيجاز عن هذا الإضراب، طالباً إلينا التعبير، عن موقفنا نحن المعلمين العرب، من إضرابهم.

صمتنا للحظة فقد كان الطلب مفاجئاً، والموقف محرجاً، لأننا تعهَّدنا في عقد العمل مع وزارة التربية المغربية بعدم التدخّل بأيّ شأن من شؤون السياسة وفيما يخص المغرب بخاصة ...!، فراح بعضنا يتأمل وجوه بعضنا الآخر وسط وجوم منقطع النظير. 

مرّت لحظات، والأستاذ بلخير يتنقّل بنظراته بنا من واحد لآخر منتظراً موقفاً ما منّا.

ودار بعقلي حوار داخليّ عاصف سريع، اتّخذت بعده القرار بأن أتولّى الردّ، متمرّداً على ما كنّا تعهّدنا به في عقد العمل سابقاً، فخاطبته قائلا: 

  • ثق يا أستاذ أنّنا معكم، ومع مطالبكم ومطالب كلّ معلّم مغربيّ، وعربيّ دفاعاً عن حقّه المشروع في حياة حرة كريمة.

تهلّلت أسارير السيّد بلخير لهذا التصريح، وشكرنا بفرح كبير، وغادرنا مسرعاً ليتبعه الطلبة والمعلمون والمدرسون باتجاه التجمع الرئيس للحشود في إحدى ساحات المدينة.

اكتظّت الساحة، على رحبها بالمتظاهرين وهم يهتفون بمطالبهم، ويرفعون الرايات واللافتات المخطوطة بشعاراتهم، بينما كانت العيون كلّها شاخصة إلى الشرفة التي راح يتوالى عليها الخطباء، حتى أطلّ عليهم الأستاذ بلخير، الذي بدأ بإلقاء كلمة لاهبة، شرح من خلالها وبانفعال واضح كلّ ما يتعلّق بهذا الإضراب العام، الذي تخلله ببعض المدن (كما قال) أعمال شغب، كحرق الحافلات ومهاجمة الدوائر الرسمية وسوى ذلك ممّا يحدث عادةً في مثل هذه الحالات.

تابعت كلمته مأخوذاً بعبق نسمة كنت أحتاج استنشاقها منذ زمن بعيد، نسمة حريّة الرأي والتعبير، ونسمة الكرامة وأهمّيّتها بحياة الإنسان.

ولم يقطع عليّ تلك السبحة التأمليّة إلا قوله: 

  • أمّا بالنسبة لموقف الأخوة المعلّمين العرب من حركتنا اليوم، فهو موقف التأييد والمساندة، ذلك الموقف الذي لخصه لنا الأخ الأستاذ السوري (ذاكراً اسمي)، بأنهم معنا ومع مطالب المعلمين المغاربة والعرب العادلة دائماً.

صفّقوا له، وتخيّلت للحظة أن كلّ من كان بالساحة كان يلتفت إليّ، ويحدّق بي، بينما راحت أمواج القلق والتوتر تأخذ منّي كلّ مأخذ وتتقاذفني أفكار، وصور شتّى، مفترضاً معها الاحتمالات التي يمكن أن نتعرّض لها بسبب هذا الموقف.

انتهى التجمّع، وبدأنا بالمغادرة، وأنا أفكّر بالأمر وتبعاته.

أخذنا بالبيت نتدارس أسوأ الاحتمالات، ومنها أن يُقرع جرس الباب بين لحظة وأخرى باستدعاء للتحقيق أو سواه من الممارسات التي كانت تحدث في جبال الرعب ...!

استمر الإضراب ثلاثة أيّام عاد الجميع بعدها إلى أعمالهم، كما فعلت حين عدت إلى المعهد بأفكار مختلطة، متوجساً أمراً أخفقت في قراءته بالوجوه، لكن ظنّي لم يكن بمحلّه، وخاصة حين شرح لنا الأخوة المغاربة أن ما قاموا به ليس إلا أمراً اعتياديّاً وحقّاً منحهم إيّاه الدستور للمطالبة بحقّهم ورفع الظلم عنهم.

مرّت شهور الفصل الدراسي الثاني بسلام، وعاد الأستاذ بلخير يمتشق (الطباشير) ويؤدي واجبه التعليميّ بكيفيّة طبيعيّة دون أن يجرّه أو (يشحطه) أحد من زوّار الفجر، كما بحدث عادةً في إمبراطوريّات الأمن والأمان ...!

ومع بدء العام الدراسي الجديد، تكررت في المعهد الوجوه القديمة نفسها، إلا الأستاذ بلخير (قائد ذلك الإضراب) فقد كان الغائب الوحيد عن المشهد التعليميّ، فساورتني الشكوك والمخاوف بأن ما كنت أتوقّعه قد حدث، فدفعني الفضول لسؤال أحد زملائي المغاربة عنه، فابتسم وكأنه قرأ أفكاري، قائلا بما يشبه الغبطة:

- إنه تولّى مهمة عمله الجديد مديراً لإحدى مدارس الريف الابتدائيّة وذلك بحسب دوره باللائحة الوزارية، فلكل معلّم دوره في السلّم الوظيفي، والترقّي والإدارة، أمّا النشاط السياسيّ فمسألة أخرى لا دخل لها بالأمور التعليميّة.

لقد كان هو وكل المتظاهرين بأنحاء المملكة يطالبون بحقوقهم، ومطالبة الإنسان بحقّه إنّما هو جزء من الحياة في كلّ مكان وزمان، إلا في جبال الخوف ...!.

 

 

عصام حقي

شاعر وكاتب سوري

 

Whatsapp