إغماضة عين لا أكثر


 

 

رائحةٌ ما، لمسة، آهة مكتومة أو ذبذبة صوت، كلّ ذلك أو بعضه قد يكفي للوشاية بما يجهد الكائن في إخفائه فتسقط منظومة الأقنعة الشكلانيّة، وتنهدم مصفوفة من الحُجُب اللغوية التي يتسربل بها الإنسان ليغدو كالحقيقة العارية بنقائها وصدقها وشفافيتها. 

الحواسّ أداة العقل وبوابة للقلب كما أنها نافذة للروح والنفس، في العلاقة مع العالم المحيط بنا تبدو أجهزة الاتصال، ونعني بها الحواس، مجرّد ملاقط متصلة بالأعصاب التي تعدّ بمثابة نواقل تجلب ما هو خارج الذات ومنفصلاً عنه إلى مراكز الرصد والتلقي والتحليل وإصدار القرار. 

ليس بمقدور العين أن تحدّد طبيعة ما تقتنصه من صور كأن تعطي انطباعاً أو تتفاعل مع المشاهد التي تنعكس على سطح عدستها المحدّبة، ولا يمكن للأذن أن تستخدم مطرقتها لتقرّر ماهيّة الأصوات التي تلتقطها ومدى ألفتها وعذوبتها، أو ربما نشازها وقبحها، ما هي رسالتها وإلام ترمز وترمي، كذلك الحال بالنسبة لبقية الحواس المتعلقة بالتذوق واللمس والشمّ. 

سيكون بدهيّاً القول بأنّ من يحلل الإشارات والرسائل والصور المنقولة إلى مخبره هو الدماغ مستعيناً بجيش لا مرئي من الأنسجة والأعصاب والأحماض والمواد العضوية والمعلومات المخزنة، وسيخضع تلك الصور المستقبلة إلى عددٍ غير معلوم من التحاليل والاختبارات، وسيجري العديد من المقارنات قبل أن يصدر قراره الأوّليّ. نعم الأوّليّ، إذ لا يقين إذا لم تستنفد حيثيات القضيّة وأسباب الحكم، وطالما كان هناك إمكانية لظهور وقائع جديدة.

أمّا الجسد فيغدو وعاء، ولنقل حاملاً، ليس إلاّ، تتمّ عبره وفيه عمليّات الاستقبال والإرسال، الحامل هنا بالتأكيد لن يكون بعيداً عن المكابدة والتأثر بالمحمول وستنعكس هذه الحمولة الكيميائية على أعضائه وخلاياه حيوية ويناعة وصحة، أو إرهاقاً واعتلالاً قد يصل به إلى ما هو أبعد من الإعياء والمرض. 

قد تستطيع الصورة قول كثيرٍ مما تعجز اللغة عن بيانه، أو ربما، كي نكون أكثر إنصافاً ودقّة، تحتوي الصورة على كثير من التفاصيل التي تهملها الكلمات أو تغفل عنها، ولعلها تفشل في إيضاحها والتعبير عنها، كذلك فإنّ الرسائل التي تبعثها الصورة غالباً ما تكون مباشرة وحاسمة، واضحة وبسيطة قد لا تحتاج في تلقي رموزها والاستجابة إلى مضامينها تلك الثقافة الواسعة، ولن تتطلب إعمالاً مضنياً للفكر، يكفي أن تحال وتسند مهمة قراءتها وتفسيرها إلى القلب.

حين يلتقي الرمشان وينطبق الجفنان تلقي العين القبض على كلّ ما يقع في محيط بللورة عدستها، تجمّده وتحتفظ به في فريزر الذاكرة، كما هو، دون مساس بعناصره أو العبثٍ بتفاصيله المحورية والثانوية، النابضة والساكنة. سيحتاج الرائي في قراءته أحياناً لأكثر مما تشتمل عليه الصورة من مفردات، لن يكتفي بما رصدته من وقائع وملامح وألوان، ومن علامات الضجيج والصمت، ثمّة مشاعر ومعانٍ، أفكار ونوايا، تشي بها إشارات ودوالّ ستدفعه لكي يصوّب أدواته المعرفية نحو الصورة بغية تحليلها وفهم منطوقها واستجلاء مراميها، سيلجأ إذاً فضلاً عن الحواس إلى مخيلته ومداركه، وإلى ثقافته وخبرته، وإلى حدس لعلّه يقترب من اليقين.

إغماضة عين لا أكثر قد تكفي لتتشكل صورة لمشهد يدوم طويلاً، ولاتخاذ قرارٍ يحظى بالأغلبية. قد تبهت ملامح صورة فوتوغرافية التقطتها آلة رقميّة صمّاء ذات نزهة... وتختلط ألوانها الممزوجة بالفرح والحبّ، أمّا الصورة التي قبضت عليها وظهّرتها الحواسّ فسينقضي عمرٌ دون أن تبلى أو يتبدّد مذاقها الحامضيّ المرّ، لن تختفي ندوبٌ تلسع الروح، ولن تزول تجاعيد القلب، وسيبقى صديد الخيبة والفجيعة يجري في الأخاديد التي حفرت عميقاً في الذاكرة.

موقفٌ حاسم اتجاه قضيّة أو شخص لن يتكلّف صاحبه في تثبيته وتعزيز صوابيّته، وفي طرد الضباب المحيط به واستبعاد ما يحوم حوله من أسراب الشكّ، سوى عودة لحظيّة إلى مجلّد الصور، وأن يستلّ الزمن الماضي من غمده كي يستعيد مشهداً ما يزال مكتظاً بألم الحقيقة، وتصهل في تفاصيله خيول الأسى.

 

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي 

Whatsapp