عازفة الاكورديون


 

مضت عدة أشهر على بداية مشواري المهني

 ودخولي في معترك الحياة العملية، ومن ذلك الوقت باتت أيامي متشابهة ورتيبة، لا شيء يذكر.

 ساعات العمل الثمانية تمر بنفس البطئ والملل

لذلك وجدت لنفسي هواية أخرجتني من حالة الرتابة التي تسود أيامي.

هواية لا تتعارض مع العمل بالطبع وهي تأليف السيناريوهات، لا تذهبوا بأفكاركم إلى أفلام السينما والمسلسلات، السيناريوهات التي أقصدها مختلفة وتطبق في ذهني فقط.

كيف؟  إليكم الإجابة:

كل يوم استقل الحافلة إلى مكان عملي لمدة تزيد على نصف ساعة، أي أني أقضي أكثر من ساعة من يومي في الحافلة التي كانت مسقط رأس هوايتي الجديدة.

حيث وجدت متعة كبيرة في النظر والتمعن في وجوه وتفاصيل الركاب محاولة ً التكهن بقصص حياتهم، آمالهم، أفكارهم، أحلامهم ومشاريعهم، إلى، أين يذهبون؟!، ومن يتحدث إليهم؟!.

كل هذا كان يجول في بالي، كنت أختار شخصية معينة كل مرة، أسرح لتستلم مخيلتي الخصبة والواسعة زمام أفكاري.

هذا الرجل يبدو بالأربعينيات، ملامحه جادة ربما هو معلم في ثانوية، ملابسه تؤكد ذلك أيضاً.

لا أنكر أن هوايتي هذه قد تسببت بتأخري عن العمل عدة مرات لأني كنت سارحة بعمق ولم أنتبه إلى أني قد فوتت محطتي.

اليوم وكالعادة لم أجد مكاناً لأجلس في هذه العربة المزدحمة، وقفت إلى جانب الباب وبدأت في البحث بين الوجوه عن بطل أو بطلة لحكايتي اليوم.

صوت قاطع سلسلة أفكاري، محاولة عزف شارة مسلسل مشهور على آلة الأكورديون، ليست سيئة لكنها ليست جيدة بالتأكيد، لابد أنه أحد أولئك الأطفال المتسولين.

نعم هذه إحدى طرق التسول الحديثة، يعلمون الطفل معزوفة واحده يصدع بها رؤوس الركاب حتى يعطونه المال للتخلص منه.

بحثت عن مصدر الصوت لتظهر فتاة لم تتجاوز الخامسة، رثة الملابس وشعرها غير مسرح، وبدا عليها التعب بوضوح.

شعرت بالشفقة عليها، وفكرت في الظروف التي كانت وراء حالها هذا، اقترب الصوت أكثر، ابتسمتُ للصغيرة وهممت إلى حقيبتي أبحث عن نقود لأعطيها لهذه المسكينة.

 في خضم انشغالي شعرت بذراعين نحيلتين تلتفا حول خصري، نظرت مذعورة لأجد عازفة الأكورديون الصغيرة تحضنني.

تأكدت من خلو جيوبي كلها مما يمكن سرقته، لست سوداء القلب لكن الاحتياط واجب.

دفنت وجهها في أحضاني بعدها، دون أن تنطق بكلمة واحدة، نظرت حولي لأشاهد معالم وجوه الركاب، صدمه واضحة لكنها لا تعادل صدمتي،

بعد لحظات مددت يدي مداعبة خصلات شعرها المبعثر.

واستمر هذا الحال حتى وصلنا إلى المحطة التالية،

أبعدت ذراعيها الصغيرتين عني ونظرت في وجهي مطولاً ثم نزلت، لم تقل شيئاً عن نفسها ولم تأخذ نقوداً حتى سألني البعض من حولي إذا كنت أعرفها أو التقينا مسبقاً.

هززت رأسي نافية، وقلت:

  •  ربما في حياة أخرى.

              

رسيل فؤاد

طبيبة وكاتبة سورية

                                                               

Whatsapp