الولايات المتحدة الأميركية، وعبر إداراتها المتتالية، ساهمت في تأجيج جميع حروب الآخرين، لا سيّما الحروب السنّية والشيعيّة بمختلف أنواعها فضلاً عن حروب الصهاينة على الفلسطينيين والعرب، هذه الحروب كانت لغايات ومصالح استراتيجية أميركية محضة.
فلماذا سئمت الولايات المتحدة، سطحياً، من بعض حروب الآخرين ذات الصفة الأصولية والدينية؟ ولماذا لم تسأم بعد من دعم الكيان الصهيوني العنصري والإرهابي طيلة ثلاثة أرباع القرن؟ وأين مصلحتها في هذا الإرباك الدولي والإقليمي المتكرر ضمن سياساتها الكونية؟ ألم تتعمّد قلب الموازين تارة في مصلحة السُنَّة وتارة في مصلحة الشيعة، وأحياناً بتزامن بين الاثنتين؟ وهل إن استراتيجية السأم والخروج الأميركية بريئة وتنطلق من سذاجة وطنية؟ أم أن الإدارة الأميركية الحالية كمثل الإدارات السابقة لا براءة ولا سذاجة فيها، وإنما تعتزم لعب الورقة السنيّة- الشيعيّة بصيغةٍ جديدة؟
استثمرت الولايات المتحدة في صنع ودعم الأصولية السنيَّة في أفغانستان والأصولية الشيعية في إيران، فأتى حكم الملالي نهاية السبعينات بتسهيلات أميركية وغربية مدهشة، وأتى بموازاة ذلك وبنفس الفترة إيحاءها للأصولية السنيّة بأنها الشريك الأساسي للولايات المتحدة في إسقاط الشيوعية عبر بوابة أفغانستان، هكذا وعبر وأدها لمشروع النهوض العربي منذ بداية السبعينات وكرمى لعيون "إسرائيل" وُلد واسّتنّبِت تنظيم "القاعدة" وبدأ نمو وتسلّط "طالبان"، كما ووُلِدت الثيوقراطية الإيرانية، بتبنّيها الاضطهاد داخلياً، وبمشروعها الإقليمي العدائي في الجغرافيا العربية، والتوسّعي في جوارها المباشر والأبعد؛ تأتي من جديد، لتقدّم الولايات المتحدة لإيران هذه الأيام أدوات تنفيذ مشاريعها بالذات عبر أفغانستان في اتجاه آسيا الوسطى، كما عبر العراق في اتجاه إتمام مشروع "الهلال الفارسي" الممتد عبر العراق إلى سورية ولبنان.
الرئيس الأميركي بايدن ليس بجاهلٍ لتداعيات الاستراتيجية الأميركية في الخروج من العراق وأفغانستان التي تبنّاها، وإن فريقه يدرك أنه بهذه الاستراتيجية يخدم النظام في طهران ويقوّي ما يسمى "الحرس الثوري" الإيراني إقليمياً، ويُدرك هذا الفريق أيضاً أن سرعة وتيرة استراتيجية الخروج من أفغانستان تلبّي المطلب الإيراني الأساسي بإخراج القوات الأميركية من الجوار الإيراني وسط عزمٍ واضح على رفع العقوبات بموجب المفاوضات على الاتفاقية النووية، بما يغدق الأموال على حكّام إيران لتمكينهم أكثر، كما أنه لا يغيب عن إدراك نفس الفريق أن هذه الاستراتيجية أيضاً تحاكي عطش "القاعدة" و"داعش" وأمثالهما وتنفخ في هذه التنظيمات زخم إحياء وإعادة اختراع نفسها بما يهدد الأمن العالمي.
لعلّ تفكير إدارة بايدن يصبّ في معادلة بسيطة قوامها، غسل الأيدي الأميركية من التورّط عسكرياً في حروبٍ بعيدة، وتالياً، إعطاء الأولوية لإبراز بايدن رئيساً ينفّذ وعوده الانتخابية، رُبَّ قائل: ما الخطأ في ذلك؟ الجواب يكمن في كلفة الأمرين، أميركياً وعالمياً، فأميركا بحاجة لـ"استراتيجية بقاء" ترافق "استراتيجية الخروج"، وإلا فإن مصالحها ومصالح حلفائها مهدَّدة.
العراق يبقى فائق الأهميّة ويجب ألاّ يسقط في أيدي إيران باعتباره الحلقة الأساسية في مشروع "الهلال الفارسي"، وسورية وقعت بفعل عمالة نظامها في أيدي طهران وموسكو، وباتت محطة محسومة في المشروع الذي لم تتخلَّ عنه إيران إيماناً منها بأن الولايات المتحدة لن توقفه في نهاية المطاف.
صدّام حسين ظنّ نفسه الشريك غير القابل للاستغناء عنه لدى الأميركيين بعدما خاض حربه مع إيران بدعم أميركي وخليجي ساحق، لكنه اكتشف متأخراً أن سيرة الاستغناء في القاموس الأميركي جدّيّة وهي فعلاً ساحقة.
اليوم، يقدّم فريق بايدن لإيران وفي هذا المفصل التاريخي وفي أعقاب سياسة الضغوط القصوى التي تبنتها الإدارة السابقة، ما هو ذخيرة نادرة وحيويّة لمشاريعها الإقليمية الهادفة لسلب العراق ولبنان سيادتهما وتدجينهما بالحظيرة الإيرانية؛ وموقف الثنائي خامنئي- رئيسي، وحرسهم الثوري بكامل قياداته هو موقف واضح وجليّ ومتشدّد ولا نقاش فيه، خلاصته الرفض القاطع لأي علاقة بين العودة للاتفاقية النووية وبين مسألتيّ الصواريخ والسياسات الإيرانية الإقليمية.
إدارة بايدن والحكومات الأوروبية المعنية رضخت كليّاً لإصرار إيران على فصل المفاوضات النووية عن أي نقاش أو طرح للصواريخ وللسلوك الإقليمي، لكن هذا ليس كافياً لحكّام طهران، إنهم يريدون قطع الطريق مسبقاً على أي محاولات لاستخدام أي نوع من العقوبات للتأثير في السياسات الإيرانية الإقليمية وبذلك تكون إدارة بايدن والحكومات الأوروبية قد ركعت أمام الخطط والمشاريع الإيرانية الإقليمية وبذلك تكون الدول الغربية قد استثمرت مباشرة بالمشروع الإيراني الإقليمي، الذي يقضم العراق وسورية ولبنان لتتصل إيران مع إسرائيل وتتعاونا معاً في خدمة المشروع والاستراتيجية الأميركية.
أين تقف إدارة بايدن من كل هذا؟ إنها تقف في موقع المتلقّي، وقد تكون لديها سياسة بعيدة المدى، ولكن هذه السياسة تبدو بلا استراتيجية، لأنها تعتمد استراتيجية الخروج من حال الجفاء مع إيران، وألا تعبث بتداعيات ذلك اقليمياً أو على صعيد انتهاكات حقوق الإنسان داخل إيران.
استراتيجية الخروج الأميركية من العراق وأفغانستان تخدم، ليس فقط إيران وإنما وكلاء إيران في العراق وسورية ولبنان واليمن أيضاً، فهل تستدرك إدارة بايدن وتصغي لما تقوله لها طهران بوضوح وصراحة حول مشاريعها الإقليمية؟ أم ستدفع الدول العربية وحدها الثمن؟ وحينها سيكون الأمن القومي الأميركي مهدَّداً أيضاً، وحينها لا يفيد الندم.
قرارات الانسحاب الأميركي ربما ترتد إلى الأسوأ، والإرهاق الأميركي المزعوم من حروبٍ نيابةً عن الآخرين بلا نهاية وبلا مردود وبلا تقدير هو ما بنى عليه الرئيس بايدن، والخوف هو في استعادة المجموعات الإسلامية المتطرّفة- في أفغانستان كما كان قبله في العراق- زمام المبادرة وإعادة اختراع نفسها بما يضاعف استعباد المرأة وانتهاك حقوق الإنسان وبما يجعل إدارة بايدن تقول يوماً: ليتنا كنا نعلم، إنما بعد فوات الأوان.
عبد الباسط حمودة
كاتب سوري