ليس جديداً على المثقفين العروبيين وقوفهم مع الأحوازيين منذ عقود طويلة، ومناصرتهم لقضيّتهم العادلة التي تدعو إلى التخلص من الإحتلال الإيراني والذي يكاد أن يكمل قرناً من الزمن لم تهدأ خلاله المقاومة وإن أخذت أشكالاً متباينة واعتراها موجات من الخفوت كان للصراعات الإقليمية في المنطقة التأثير الأكبر عليها، يضاف إليها الشحن الطائفي الذي رافق تلك الصراعات مما تسبب في تشويش الحراك السياسي في الأحواز منذ اندلاع الحرب الإيرانية ـ العراقية، واحتلال الكويت ومن ثم حرب الخليج الأولى انتهاءً بغزو العراق.
إنما اللافت للنظر اليوم هو عدم اقتصار المناصرة والتعاطف مع انتفاضة الأحوازيين على شريحة المثقفين وانما تجاوزتها إلى شرائح عديدة من الجماهير العربية على اختلاف سوياتهم الثقافية أو العمرية وحتى العقدية.
رغم تعاطي النظام الإيراني مع الأحوازيين على أنهم جزء من الشعب الإيراني ـ إعلامياً ـ إلّا أن الممارسات على الأرض كانت تؤكد يوماً بعد يوم للشعب الأحوازي أنّ نظام الملالي في طهران ينظر إليهم بعكس ما يدعي على الرغم من أنّهم في أكثريتهم شيعة، فكان يضيّق عليهم سبل الحياة ويستنزف موارد الأحواز وينهب ثرواتها كأي محتل أجنبي.
ما الجديد الآن في القضية الأحوازية بعد عقد كامل من انطلاقة الربيع العربي بشكل عام والثورة السورية بشكل خاص؟ وبعد أن انفضح زيف كلّ المنظومة التي تقودها إيران وزيف خطابها السياسي والعقائدي عندما تورطت بالدم السوري، وتحولّت "داعش" من ذريعة بنت عليها مشروعها الاستعماري إلى تهمة التصقت بها بعد انكشاف عشرات الآلاف من المراسلات بين هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس أوباما وقاسم سليماني التي تثبت الدور الكبير لإيران في صناعة داعش لتكريس الصراع الطائفي في المنطقة انطلاقاً من العراق وسورية ولبنان ـ ذلك الصراع الذي يخدم بالطبع أميركا وإسرائيل ـ وتهديد دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية من خلال الحوثيين في اليمن. في ضوء هذه الانتصارات الايرانية " المرحلية " وسيطرتها على أربع عواصم عربية تأتي انتفاضة الأحواز اليوم وبغض النظر عن مآلاتها ونتائجها، فإنّ تعاطف السوريين والعراقيين واليمنيين وحتى اللبنانيين وتضامنهم مع الشعب العربي في الأحواز جاء ليقضي على كلّ أوهام الطائفية ويضيف رصيداً أخلاقياً جديداً لثورات الربيع العربي وللثورة السورية بشكل خاص التي عانت الكثير من محاولات حرف بوصلتها وإغراقها في وحل الطائفية.
ما يمارسه نظام الملالي منذ أربعة عقود هو استمرار لسياسة التهميش تجاه الأحوازيين في محاولة لطمس هويتهم العربية، وهذا ما يدحض ادعاءاتهم ويكشف العقلية العنصرية الفارسية التي تلطّت بالغطاء الطائفي بدعوى المظلومية التاريخية المزيّفة التي فضحتها الثورة السورية بشكل فاقع ومن قبلها ممارساتهم في العراق وكذلك في اليمن، ما يدفع لتكريس قناعة في العالم العربي بأن النظام الإيراني بات هو الخطر الداهم الحقيقي والأول الذي تتعرّض له الأمة العربية وبدعم غير خاف على الجميع من الغرب وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية.
مرة أخرى يصاب حلف الشر بالذعر من أي حراك خارج دائرة حساباته فيلجأ إلى آلته العسكرية في ساحة تفريغ شحنات الحقد في إدلب وجبل الزاوية ليستعيد بعضاً من الطمأنينة في صفوف جمهوره الذي بات قلقاً على مصيره أكثر من أي وقت مضى وهو يرى نتائج "النصر الخلبي" مزيداً من الفقر والجوع . والعطش.
إنه العطش الذي دفع الأحوازيين هذه المرة للإنتفاضة ولكنه ليس السبب الوحيد بالتأكيد، ولذلك نجد الانتفاضة مؤهلة للاتساع لتشمل مناطق أخرى خارج الأحواز كما حصل في أصفهان، وكما التقطتها المعارضة الإيرانية ودعت لمناصرة انتفاضة الأحواز كما جاء على لسان زعيمة المعارضة ( مريم رجوي) التي تسعى لتحشيد أكبر تأييد دولي لإسقاط نظام الملالي والإنتقال بالشعب الإيراني إلى الديمقراطية والرخاء بعيداً سياسة العداء والحقد الطائفي المدمر الذي تنتهجه طهران اتجاه دول الجوار.
لعلّني أستشرف شذرات من المستقبل القريب بنظرة تفاؤلية لا مناص من الاعتراف بهاـ على الرغم من سوادية المشهد الراهن ـ وهي أنّ مرحلة الاستكانة التي اتسمت بها المنطقة في ظلّ أنظمة استبدادية دأبت على إبعاد المجتمع عن الشأن العام من خلال القمع والتجهيل إلّا أنّ الربيع العربي كان أشبه بالتسونامي الذي اكتسح كلّ تفاصيل منظومة الإستبداد واقترب من الدولة العميقة وهزّ أركانها إيذاناً باقتلاعها لإعادة سفينة الحياة إلى مسارها الطبيعي بعد هذا الإصرار الأسطوري والاستعداد المذهل على التضحية في سبيل نيل الحرية وتحقيق دولة المواطنة والحرية والعدالة.
ياسر الحسيني
كاتب سوري