مستقبل الإنسانية والمجتمع المدني


 

أيّها الشباب! عليكم أن تحدِّدوا محوراً لأنفسكم (ماهي مهمتي؟ ماذا أفعل؟ كيف أفعل ذلك؟ ماهي نظريتي في الحياة؟ كيف أجعل الحياة ذات معنى؟ وإعطاء الإجابات الصحيحة على هذه الأسئلة). 

في كتابه (مستقبل الإنسانية والمجتمع المدني) حاول الكاتب والمفكر التركي (تورغاي آلدمير) أن يقدم حلولاً وإجابات عن هذه الأسئلة المهمة والكبيرة..

وفي هذا المقال لن أتحدَّث عن الكتاب بطريقة تقليديّة كما هو معتاد من تسليط الضوء على فصول وأبواب الكتاب وإعطاء شرح موجز له، ولكن أردتُ تقديم قراءة لبعض الأفكار الواردة فيه، وموضوع الكتاب مهمّ وواسع ولا يمكن الإحاطة به بمقال واحد..

ولابدَّ في البداية من أن نعرِّف بلمحة سريعة معنى مفهوم المجتمع المدني المتداول بشكل كبير في أيامنا هذه، ومتى ظهر هذا المفهوم، ومِن أين جاء إلى ثقافتنا، وهل نحن بحاجته في مجتمعاتنا؟

لقد ظهر مصطلح (المجتمع المدني) في بدايات القرن السابع عشر مع فلاسفة أوروبا أمثال هوبز وروسو ولوك وهيغل وماركس، فقد افترض الفلاسفة في تلك الفترة وجود "الحالة الطبيعية" كحالة افتراضية كان الإنسان يعيش فيها قبل تشكّل المجتمعات الحديثة المعقدة، فكان المقصود بها حالة الفطرة والغريزة التي وُجد الإنسان عليها منذ البداية، ومن ثمّ انتقل إلى الحياة الاجتماعية التي تحتاج لقوانين لحمايته وحماية ملكيته، ومع هذا الانتقال كان لابدّ من وجود "مجتمع مدني" يقابل "الحالة الطبيعية"، وهذا المجتمع المدني قُصد به الدولة بكافّة نواحيها على عكس ما هو شائع اليوم عن مفهوم المجتمع المدني الذي يعني اليوم المنظمات والجمعيات والنقابات غير الحكومية والتي تعمل بشكل طوعي، ومع تطوّر الفكر الأوروبي من كافة النواحي وبخاصة مع ظهور الرأسمالية كنظام اقتصادي سياسي بدأ هذا المفهوم يأخذ معنى مختلفاً عما كان عليه إلى أن وصل إلى شكله الحالي (جمعيات ومنظمات واتحادات طوعية تعمل لخدمة المجتمع بعيداً عن سلطة الدولة في محاولة للتخلّص من تغوّل الدولة الحديثة على كافة مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية والتعليمية وغيرها)…

فمن غير المقبول من منظور المجتمع المدني أن تتولى الدولة مهمة التعليم وتفرض رؤيتها على أطفالنا، وكذلك الأمر بالنسبة للاقتصاد حيث من غير المعقول أن تتحكّم الدولة بجميع موارد المجتمع.

من هنا ندرك أن مفهوم المجتمع المدني قد دخل على ثقافتنا العربية والإسلامية بشكله النهائي بعد أن شكلته التجربة الغربية عبر سنين طويلة، وبالعودة لأفكار الكتاب ومما أثار أعجابي محاولة الكاتب عرض النموذج الإسلامي لنظام المجتمع المدني والذي يعتبر أقدم بكثير من الفكر الغربي لهذا الموضوع والذي هو نظام "الوقف الإسلامي" الغائب عن حياة مجتمعاتنا منذ نهاية الدولة العثمانية، ومع ظهور الدول القطْرية "الحديثة" التي لم تُبقِ نظام الوقف مستقلاً عن الدولة كما كان منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب، بل جعلته ضمن وزارات الدولة، حيث كان الوقف في جميع عصور الدولة الإسلامية نظاماً مالياً مستقلاً عن خزينة الدولة وكان المسؤول عن تمويل حلقات العلم وتوفير مستلزمات العلماء وطلاب العلم، وجميع البيمارستانات كانت تموَّل من نظام الوقف وكذلك الإشراف على الأيتام ومساعدة الفقراء وتأمين العمل وغير ذلك الكثير من مهام الوقف الذي كان نظاماً طوعياً يعتمد على أموال المتبرعين ويقوم بتوجيهها إلى مكانها الصحيح، والعمل الطوعي يعتبر اللبنة الأولى في بناء مجتمع مدني وقد ربط الكاتب التطوع بالإيمان والقلب الذي هو مركز عالمنا المادي والروحي، فالتطوع هو السلوك الذي يكون مصدره القلب والذي تكون غايته الإنسانية جمعاء وليس الحالة الشخصية أو الأسرة أو العشيرة ولا حتى المنطقة، فالتطوّع هو أن تعمل فقط لأجل غاية واحدة وهي أن تعمل لأنه واجبك الإنساني فقط لا غير ودون انتظار المقابل من أحد.

ويقدِّم تورغاي آلدمير رؤية ناضجة عن وضع الحركات الإسلامية الموجودة الآن وما يجب أن تكون عليه كي تستحقّ هذا اللقب، فهو يرى أن هذه الحركات لم تستطع مجاراة التطوّر الحاصل في العالم وبقيت حبيسة التاريخ من خلال قصور في فهم الطبيعة الجديدة للحياة الاقتصادية الراهنة ومتطلبات المجتمع والوضع السياسي والعلمي والاجتماعي، ومن أجمل ما قاله في هذا الكتاب عن عالمية الإسلام كحلٍّ وليس كخصوصية لمجتمع ما، فيقول: (إن الجهد الذي لا يُراعي حقوق جميع البشر وكلّ الكائنات الحيّة لا يمكن أن يكون حركة إسلامية). 

ويفرّق الكاتب أيضاً بين الحركة الإسلامية الكائنة وكما يجب أن تكون، وذلك من خلال عدّة نقاط  تشمل الدِّقّة والانفتاح وعدم الانغلاق والمساواة وتقاسم الثروات وتداول السلطة، ويسمّي الحركات التي تتَّخذ الدين وسيلة للوصول للسلطة بالحركة "العنكبوتية" اقتباساً قرآنياً دليلاً على الوهن حيث يقول: (إن الحركة الإسلامية هي وسيط تقاسم بينما يأكل أحدهم  فالآخر لا ينظر إليه والآخر عندما يكون جائعاً فالآخر لا ينام شبعاناً، وفي العنكبوت عندما يأكل أحدهم فالآخر ينظر إليه وعندما يكون أحدهم شبعاناً يبقى الآخر للصباح جائعاً.. 

في الحركة الإسلامية إذا سأل أحدهم من خارج المجتمع "أيّ منكم محمّد؟ اضطرارياً فإذا لم يسأل هذا السؤال بعد الآن فاعلم أن هناك عنكبوتية)..

وفي الحقيقة يقدم تورغاي نموذجاً رائعاً لما يمكن أن يسمى حركة إسلامية قادرة على تقديم حلول لمشاكل البشرية، وذلك من خلال العودة للقيم والثوابت الكبرى مع الفهم المعاصر لواقع العالم الحديث فغالبية الحركات التي تسمّي نفسها إسلامية اليوم لم تصل للتفكير بعقلية دولة ومازالت تحاول أنشاء دويلات ضمن الدول.

وعلى كل حال ففي هذا المقال لا يمكننا الإلمام بكل افكار الكتاب فهو غني ويستحقّ القراءة، ولكني أردت تسليط الضوء على بعض الأفكار التي قد تمسّ واقعنا بخاصة وأننا نعيش حالة اجتماعية منقسمة بين عشائرية ومناطقية فنحن أحوج ما نكون لفهم طبيعة المجتمع المدني الذي يمثل حلاً جيداً للوضع الاجتماعي وإعادة التفكير  بتفعيل الوقف الإسلامي الذي يقدم حلولاً لكثير من مشاكل البشرية على جميع الصعد، فالجميع اليوم ينظر بعين المراقب للحلِّ في سوريا من خلال شكل الدولة المرتقب وكل الحديث يدور حول الشخصية الحاكمة لهذه الدولة.

حقيقةً مازلنا نفكر بعقلية جامدة ورثناها عن "الدولة" والأحزاب الحاكمة في بلداننا العربية، هذه العقلية لا تستطيع الخروج من فكرة ان الدولة  "دين" وان الحاكم هو "خليفة الله" في الارض...

إذاً لا بدَّ لنا من بناء منظمات مجتمع مدني قادرة على حمل أعباء التعليم والصحة والخدمات وغيرها خارج نطاق سلطة الدولة حتى لا تكون الدولة هي المتحكمة بجميع مفاصل الحياة وإذا ما سقطت سقط المجتمع معها كما حدث في كثير من بلاد الثورات، فالمغول هزموا المسلم كحكومة ولكنهم هُزموا كمجتمع أمام المجتمع المسلم آنذاك لأن المجتمع كان يتمتع بقوة ذاتية وفَّرها له نظام الوقف فلم ينهَرِ التعليم والصحة والمنشآت بانهيار الدولة.

ولابدَّ لنا في النهاية من طرح تساؤل بسيط، وهو هل نحن اليوم في سوريا نعيش حالة المجتمع المدني أم المجتمع العشائري القبلي؟ وهل كل هذه المنظمات المتواجدة في المناطق المحررة لا تمثل منظمات مجتمع مدني؟.. 

في السابق أنشأ نظام البعث شكل هيئات ونقابات واتحادات وجمعيات مجتمع مدني، ولكنها في الحقيقة هي مجتمع عسكري بحت، وليست منفصلة عن الدولة بل هي الدولة ذاتها، واليوم وبدون الدخول بتفاصيل عمل المنظمات في المناطق المحررة نستطيع تقييم عملها من خلال الواقع المزري الذي يعيشه المواطن العادي بكل النواحي التعليمية والصحية والاقتصادية، فهل استطاعت التأسيس لبناء مجتمع مدني قويّ بذاته كما فعل نظام الوقف سابقاً؟.

 

 

محمّد ياسين نعسان

كاتب سوري

Whatsapp