الجهالة شيء يمكن تعلّمه، حيث يتم نقل الجهل عبر التعليم والتلقين. وعلى الرغم من أنه يبدو متناقضًا للغاية إلا أن التعليم لا يسير بالضرورة مع القيم الإيجابية على الدوام، بل يمكن أن يعمل بطريقة نقل مسلّمات الجهل الموجودة في المجتمع إلى الناس والأجيال. ولذلك يتكون شعور بأن التعليم لا يقضي على الجهل، بل على العكس يساهم أحيانًا في تنميته وتعزيزه.
وفي بعض الحالات تصدر المواقف والقيم العنصرية والتمييزية والأنانية والعرقية وحتى المعادية للديمقراطية عند ذوي المستوى التعليمي المرتفع، وهو وإن كان أمرًا متناقضًا في الظاهر إلا أنه حقيقة. ولذلك نجد أن أولئك الذين يعتقدون أن التعليم يمنحهم امتيازًا دون سائر الناس، سرعان ما يتبنّون مواقف عاطفية تتمثل في رؤية أنفسهم متفوقين على الآخرين من خلال التعليم فقط، بينما يأخذ بهم التعليم ذاته إلى أشواط بعيدة عن الحكمة والمعرفة.
أما على صعيد نشر القيم السلبية في هذا المطاف، فإن السياسيين يتحملون مسؤولية أكبر في ذلك. وإن العنصرية هي الموقف الأكثر جهلًا لدى البشرية. ربما يكون من السهل إن بقي هذا الموقف على الصعيد الفردي فحسب، لكن أن يحوّل السياسي ذلك إلى خطاب سياسي فهنا تكمن الخطورة القصوى.
إن كليجدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة التركية، الذي يتزعّم حزبًا يزعم أنه "اجتماعي ديمقراطي"، من المفترض أن يكون مزوّدًا بدعائم فلسفية وفكرية مهمة ضد العنصرية. نقول "من المفترض" لأنه من الواجب أن تكون أكبر مبادئ الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية في العالم هي مكافحة العنصرية. بل إن المهمة الأصلية لمثل هذه الأحزاب حول العالم هي إنتاج سياسات تدافع عن اللاجئين ضد الخطاب العنصري المعادي للاجئين في كل مكان.
إلا أن الوضع في تركيا مغاير لذلك مع الأسف، حيث حوّل كليجدار أوغلو حزبه إلى مركز لإنتاج الخطابات والمواقف العنصرية تجاه اللاجئين. إنه يتوعد بحل مشكلة اللاجئين من خلال إعادة السوريين إلى بلدانهم، دون أن يدرك على الأقل أنه يخدم بذلك تأجيج العنصرية ومعاداة السوريين.
ليس علينا أن ننتظر لمعرفة من أي نقطة سقط أولئك الذي سقطوا في قاع جهالة مثل جهالة العنصرية. يكفي معرفة أن مَن يتبنّي خطابًا عنصريًّا سواء زيّن ذلك في الظاهر من خلال زعمه أنه سيحل مشكلة اللاجئين أو من خلال طرق أخرى؛ أنه لا يخدم سوى العنصرية ومعاداة السوريين بينما يغرق في أعماق قاع العنصرية.
إذا ناقشته حول خطابه المعادي للسوريين، سيجيب بأنه لا علاقة له بالعنصرية، بل كل ما في الأمر أنه يعد بتحسين الوضع في سوريا حتى يتمكن السوريون من العودة إلى ديارهم بشكل مريح، وبذلك لا تبقى مشكلة أمام السوريين في تركيا كي يعودوا إلى بلدهم.
حسنٌ، لكن كيف يمكن لكليجدار أوغلو يا ترى أن يقنع الأسد القاتل الذي قام بتهجير ما بين 12 إلى 14 مليون سوري من بلادهم بتغيير يجعل هؤلاء المهجّرين يثقون فجأة بهذا النظام؟ أي نوع من الثقة بالنفس هذه! هل يوجد هناك علاقة هرمية خاصة للغاية بين كليجدار أوغلو والأسد لا يعرف عنها أحد؟
إذا كان كذلك؛ فعلى كليجدار أوغلو أن لا ينتظر حتى يصل للسلطة، بل خير البرّ عاجله ليقم الآن بجعل الأسد يطلق سراح مئات الآلاف من الأبرياء الذين يتعرضون حاليًّا للتعذيب الممنهج في معتقلاته.
هل يرتبط استمرار الأسد في قمعه الحالي ضد شعبه بتغيير السلطة السياسية في تركيا؟ بل دعونا نسأل لماذا اضطر ما لا يقل عن 12 مليون سوري للجوء نحو ليس تركيا فحسب، بل إلى لبنان والأردن والعراق وألمانيا ودول أوروبية أخرى، أو حتى مناطق داخل سوريا لكن خارجة عن سيطرة نظام الأسد، مثل المناطق التي تخضع لسيطرة تركيا أو الولايات المتحدة؟
إما أن يكون كليجدار أوغلو منفصمًا تمامًا عن عالم الواقع أو أنه يشوّه الحقائق عن عمد، ويحرّض المجتمع من أجل كسب أصوات انتخابية. وبهذا الشكل يكون كليجدار أوغلو قد وقع في أقذر مستنقع من أجل حساباته الانتخابية، وفي سبيل ذلك لا يمتنع عن تأجيج العنصرية عبر إثارة المشاعر المعادية للاجئين.
لقد كانت تركيا منذ البداية تقترح الحل الناجع من أجل إيقاف تدفق اللاجئين من سوريا، لكن حينما لم يستمع أحد لذلك وجدت نفسها مضطرة للدخول بشكل مباشر وطبّقت الحل. ولا يقوم هذا الحل إلا عبر رحيل الأسد الذي فقد ثقة الشعب السوري بالكامل، ولم يعد يحظى منهم على أي تعاطف سوى مشاعر الخوف والرعب، أو إذا كان هذا غير ممكن فيجب إذن تأسيس مناطق آمنة داخل سوريا يمكن للسوريين الفارّين من آلة القتل اللجوء إليها. ولو تم تطبيق ذلك منذ البداية لما شهدنا تدفق مزيد من المهجّرين سواء إلى تركيا أو إلى أوروبا.
لقد نجحت تركيا منذ أول عملية لها داخل سوريا وهي "درع الفرات" عام 2016 وما تلاها من "غصن الزيتون" و"نبع السلام"، في الاحتفاظ بما لا يقل عن 6 ملايين سوري داخل سوريا كانوا هم أيضًا سيقرعون باب الهجرة.
ولقد ساهم بالفعل هذا الحل الذي قامت به تركيا بنفسها في إيقاف موجات تدفق اللاجئين. وفي المقابل لا يمكن أن يكون هناك أي دور للضمير عند أولئك الذي يتوعدون بإرسال اللاجئين إلى بلدانهم التي لا ينتظرهم فيها سوى الموت. ولذا فإن أصحاب هذا الخطاب العنصري ضد اللاجئين من الواضح أنهم أصحاب ضمائر جافة.
حسب معطيات الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير لها نشرته يوم 8 مارس/آذار العام الجاري في اليوم العالمي للمرأة، فإن نحو 10 آلاف امرأة يقبعن في زنزانات الأسد كرهينات، لقربهنّ من معارضين مطلوبين للنظام هناك. بصرف النظر عن حجم التعذيب الذي تتعرض له هذه النساء فإن الانتهاكات التي يتعرضن لها تدعو الإنسانية للخجل.
ومن ناحية أخرى، هناك مئات الآلاف من السوريين دخلوا معتقلات النظام دون أن يسمع عنهم أي خبر حتى اللحظة، ولا يعرف مصيرهم هل هم أحياء أم أموات. ومن يدفعه الفضول لمعرفة مصير هؤلاء المعتقلين، عليه أن يعود لأرشيف مكون من 55 ألف صورة مرعبة لـ11 ألف معتقل تعرضوا للتعذيب حتى الموت، سرّبه جندي منشق عن النظام قبل 6 سنوات، والملقب بـ"قيصر".
هل يمكن لكم أن تتخيلوا أي نوع من أنواع التعذيب تعرض له هؤلاء المعتقلون الذين دفع بهم هذا التعذيب إلى الموت ولم يتبق من جثثهم سوى جلد وعظم؟ إضافة لذلك علينا أن لا ننسى أن هذا الأرشيف هو عبارة عن صور لمعتقلين حتى العام 2016 فقط. بينما هناك مئات الآلاف من الأشخاص الذين لم يسمع عنهم أحد أي شيء منذ لحظة اعتقالهم حتى الآن.
أما عن قصصهم فهي كوابيس عالقة في مخيلة كل واحد من ملايين السوريين الذين فرّوا من نظام الأسد.
والآن يأمل كليجدار أوغلو بخطاباته العنصرية في تحقيق مكاسب سياسية من خلال إعادة إحياء هذه الكوابيس مرة أخرى.