رماد السنين مقاومة الأسر بالشعر


ثمّ ما يغوي ويدعو إلى التأمل في "رماد السنين" العنوان الموسومة به مجموعة الشاعر المبدع "حسن النيفي" المعاد إصدارها عبر دار "الملتقى" العام ألفين وعشرين الفائت، إذ سرعان ما تنزوي شحنة الحزن والرومانسيّة المشبعة لهذا العنوان لتظهر دوّامة المقاصد والدلالات التي يرمي إليها، فهل قصائد هذه المجموعة هي رماد ما احترق من عمر شاعرنا في معتقله السياسيّ وهي سنون عجاف نافت عن الخمس عشرة، أم إنّ المعنى المراد هو أنّ هذه الحقبة المظلمة لم تكن هزيمةُ ألمِها ووحشتها ممكنة لولا أن أحرقها النيفي بجمر روحه المشتجرة بنار الشعر، وأنّ رمادها الذي أزهر قصائد تكتظّ بنداءاتها وغضبها وحزنها وابتهالاتها سيبقي على جمر الثورة والرفض مستعراً ومتوهجاً ؟؟!!

الشعر، وهذا ما تؤكده قصائد المجموعة واستهلال شاعرها في مقدمتها، فعل حرّية يتجلّى ممارسة منزّهة عن كلّ ما هو أدنى من الشعر وقيمه الإنسانيّة السامقة، كذلك فإنّها اللغة المتجرّدة من أسمال الواقع ومن أقنعة الممكن حين تتمرّد على سجّانها المدجّج بأدوات القهر، وتثور على استبداد العقل وطغيان المنطق، ستمضي إلى نزهتها بكامل فتنتها وتحلّق في فضاءات المعنى كطفلة تنقش أسئلتها على قطن السماء فيولد الشعر وينهمر، وتتفتح مكامن الدهشة.

لكنّ "خطى الأيام التي تسلب صفو الشعور" و "الزمن الذي يجافي الشعر" يدفعان بالشاعر للتمسك بجدار الحلم، وليتجاوز شعوراً ممضّاً "بعدم الجدوى"، فليس من محيٍ له سوى الحبّ، كذلك "لا عاصم" من ظلمة الأسر سوى القصيدة إذ تحفر في صخر اليأس نوافذ الأمل، وما على الزمن سوى أن يستعيد وعيه فيتخلى عمّن تسبّب بوصمه بالعار وبأقذى النعوت، ويتصالح مع من يمنحه شرف الاسم المقترن بالجمال والرفعة والسموّ.  

لعلّ الحريّة بأبعادها المعرفية وتجلياتها الروحيّة والحسية هي من أعظم ما ينشده الشاعر وتلمسه حواس المتلقي، هي الحلم الأكثر حضوراً فقلّما تخلو قصيدة من قصائد المجموعة من عدد من المفردات الصارخة بها والمرادفة لها أو الدالة عليها: أفق، فضاء، فجر، أجنحة، شفق، وهج الشمس، النور، سنا...، إنّها شغف الروح المفجوعة إلى معانقة الفجر وقد أطبقت عليها "أستاف الظلام"، وهي الحقيقة التي صيّرها الديجور وهماً.

في السجن يرزح الجسد بين رحى الجدران الصمّاء وتتعطل الحواس إلاّ عن مكابدة آلات التعذيب ومغالبة مخالب الغيلان البشرية، فتجمح المخيّلة وتشتعل الحدوس، وتغدو الروح سفيرة الشاعر إلى الضوء والغيم والمدن الآفلة، لكنها الروح تعود راجفة متشظية تلوذ بوجع صاحبها، ليطمئنها ويبثّ فيها العزيمة والروح:

يا روح 

ما سجد الجبين على الدمى أبداً 

ولم يلج الخنوع قناتي

فتلطفي بدمي إذا هطل السنا              

وانساب وهجك في ربا حجراتي

وبالرغم من تصريح الشاعر حسن النيفي بأن قصائد هذه المجموعة لم تعد تلبي طموحاً فنّياً متيقظاً بين جوانحه، ومع ما يتلامح من تداخل صوتيّ وتأثر أسلوبي في بعض المطارح، لعلّه مقصودٌ في جزءٍ منه على الأرجح، إلاّ إنّ الصدق بمناحيه الفنية والواقعيّة والعاطفيّة غالباً ما يتبدّى جليّاً في لغته الشاعرة المكثفة، وفي صوره الغزيرة المكتظة بالتلقائية والانفعال، لا أثر فيهما للذهنية أو النحت، فاللغة الممتلكة حساسيتها وقدرتها التعبيرية المناسبة تنثال صادحة رقراقة حيناً، وغاضبة حيناً، ومترعة بالحزن والخيبة أحياناً، وهي في جميع حالاتها معبرة وإنسانية متسامية، مكتنزة بالعاطفة وبعيدة عن المبالغة والافتعال، كذلك فإنّ الصورة الشعرية نابعة من مخيّلة خصبة ووجدان نقيّ لا تهمل الوعي ولا تستسلم لضوابط العقل، تتنوّع ما بين الصور المفردة والمشهديّة المركبة. 

مجموعة "رماد السنين" نتاج مرحلة استثنائية اتسمت بكل ألوان الألم والخيبة والقهر الإنسانيّ، إلاّ أنها تمثّل شكلاً من أشكال الرفض ومقاومة الأسر بالشعر، وتطرح كثيراً من ملامح الخلاص من الطغيان، وتقدم أنموذجاً مهمّاً للثبات على المبادئ والقيم الإنسانية، وتبرهن أن لا قوة على الأرض يمكن لها أن تقبض على حرّية الإنسان أو أن توقف زحفه إليها. 

هكذا تنهض القصيدة من الرماد كيما تتزيّا وتتبرّج انتصاراً للحياة، وتتزنّر بنور الروح وبنبض القلب "دفاعاً عن الفطرة الإنسانية" المجبولة على الحرية والجمال والحبّ، لا غرابة فالشعر سليل اللغة الحرّة والقلم النبيل.


 

Whatsapp