الهروب من الموت إلى القبر


فتحْتُ عينيَّ على إيقاع الصداع الّذي يحفرُ في رأسي خنادقاً ويملؤُها بالهموم، فالهروبُ من الموتِ في ملجأ أصعب من الموت نفسه، كنّا قرابةَ المئة نجلس القرفصاء ننتظر أن نصبح أشلاء، والأطفال بيننا تائهون بنظرات بريئة وأفواه جائعة لا تدرك معنى الموت والحياة. 

  صباحاً نهضْتُ هاربةً من ضيقِ هذا القبر إلى سطح الأرض، غسلْتُ وجهي بدموعِ تشرين الحزين، وارتديتُ رياحَهُ مِعطفاً، مشيتُ كقاربٍ مكسور في دوّامةِ بحرٍ غاضب، لا شيء حولي إلا الركام والأشلاء، وصلتُ إلى البيت لأحتفل بعيدي مع أوجاعي الّتي أهدتني مئة عام، استقبلتني الذكرياتُ بالترحاب، ومسكتْ يدي وركضَتْ بي وأنا عجوزٌ هدّها الزمن فلا أستطيعُ الركضَ في البيت الذي أصبحَ كحالي شاحبٌ مُدمّر، وجدْتُ عصفوري الأبيض نائماً بسلام جريح القلبِ، حفرتُ لهُ قبراً بين الورود الذابلة، وسقيتُ القبرَ بدموعي، بكيْتُ كما تبكي الغيومُ عندما تُغرِقُ الأرضَ وتذوبُ دفعةً واحدة، تبوحُ بجرحها فيصرخُ التراب بعطره أهلاً فقلبي بيتُ دموعكِ والشّجنْ، عدْتُ إلى غرفتي، إلى مملكتي حيثُ كنْتُ أدرسُ وأحلمُ وألقي الشّعر على جمهورٍ كبيرٍ من الدُّمى، لمحْتُ تحتَ الرُكام ملابسي المدرسيّة ارتديتُها مسرعة، إلى بقايا المرآة كي أرى نفسي طبيبة معلمة عاملة محامية وبقايا أجزاء، لم أرَ إلّا الدمار فالمرآة انكسرتْ كما الأحلام،  خلعْتُ الملابسَ المدرسيّة كما لو يخلعُ المرءُ قلبَهُ ويقتلعُ عينه، لملمْتُ أوراقي المُبعثرة، استنشقتها بحسرةٍ  خزنْتُها في أعماقي، لعلّها تنفعُ  أثناء موتي الرّحيم وتكون لي عوناً على استنشاق آخر الأنفاس.

تقوقعْتُ على نفسي، وكأنّني في رحمِ أمّي، ونمْتُ كما تنامُ النيران بعدَ ركودها تاركةً الرماد في غيبوبة أبدية.

بعدَ ساعاتٍ استيقظْتُ على أصوات وعويل كنْتُ أسمعُ صراخَ أُمّي وكأن ظهرها ينكسر وشرايينها تتمزقُ، أسرعت وتمسكْتُ بها كآخر ورقةٍ على شّجرة في خريف، وجوه متحجرة وأنين صامت نظرات مرعبة، وكأن على رؤوسهم الطير، فقدت السيطرة وأصبحت  أصرخُ كوليدٍ يرتعشُ خوفاً وبرداً، وصلْتُ إلى الملجأ رأيْتُ عشْراتَ الحافلاتِ كالتوابيتِ تماماً، يصطفون أمامهم كالأموات لم يعد يرعبهم صوت الطيران، يوارون نظراتهم عن الجثث الملقاة، والكل يأمل ألا يكون أحداً من عائلته بينهم، إلا الأمهات اللواتي فقدن أطفالهن أبوا الصعود والنجاة واختاروا القصف والممات إلى جانب جثث أطفالهم فبعدهم لا حياة، لفت نظري امرأة لا تحمل إلا بروازاً بداخله صورة زوجها الشهيد ورجل كبير يمسك بيد زوجته التي تتكأ عليه يود لو يقدر على حملها وابعادها عن كل الأحداث، وطفلة تحتضن دميتها موهمة نفسها أنها ستحميها من غدر الأوباش،  أخذْتُ قبضةَ تراب  بحجمِ قبضةِ القلب، وصعدْتُ الحافلةَ كانَتْ تسيرُ ببطء فهي تحملُ أثقالاً من الأحزان، بكتْ الشمسُ مع الغيوم والأرض، وقفتْ الحافلاتُ خارج الوطن، دخلتُ مع عائلتي إلى الخيمةِ الباردة، كما دخلَ عصفوري الجريح الى القبر، والصداعُ يصرخُ كيف ستعيش السمكة خارج البحر؟. 

  

فاطمة حوراني

كاتبة سورية

Whatsapp