درعا البداية والنهاية .. عقد من الألم والأمل 


" بدّك تتصل بأهلك وتطمنهم عن حالك؟" .. كانت تلك الجملة البسيطة التي ألقاها أحد الثوار السوريين في درعا على مسامع جنود الأسد من الفرقة الرابعة الذين وقعوا في الأسر عند أول محاولة لهم لإقتحام (درعا ـ البلد) صبيحة يوم الخميس 29 تموز الفائت .

نزلت تلك الجملة ـ على بساطتها ـ كالصاعقة على جنود الأسد وكأنّهم لا يصدقون ما سمعوه، وكذلك على كلّ من تابع ذلك المقطع الذي انتشر بسرعة البرق في العالم، ليعيد للأذهان تلك الصورة الناصعة للثورة السورية قبل أكثر من عشر سنوات يوم كان غياث مطر يوزع الورود على جنود الأسد ويضعها في فوهة البندقية، هي ذات البندقية التي انقلبت على الشعب وقتلت غياث ورفاقه وداست على الورود وأحالت البلاد إلى ركام وكان لسان حال الجنود " الأسد أو نحرق البلد ".

جملة واحدة اختصرت الفارق بين جمهور الثورة العظيمة وجمهور الشبيحة الموتورين، وأصّلت لجوهر الصراع والقاعدة الأخلاقية التي يرتكز عليها كلا الطرفين، في الوقت الذي يكون فيه سقف طموح أهل المعتقل ( المدني) هو معرفة الجهة الأمنية التي اعتقلته وفي أي مسلخ بشري هو موجود، نجد بالمقابل أسيراً من جنود النظام المجرم يحظى بتلك المعاملة والظهور العلني على الإعلام ويقدّمون له الطعام على الرغم من قلة الطعام وهم تحت الحصار الخانق منذ أربعين يوماً !!! هذه هي أخلاق الثورة التي حاول الغرب والشرق خطف ألقها وإلصاق شتى صنوف التهم بها لتشويهها ووصمها بالإرهاب من أجل تبرير تكالبهم عليها، ولكنّها كما العنقاء التي تخرج من تحت الرماد لتجدد نفسها.

لم يكتف الثوار في درعا بتلك الرسالة بل أتبعوها بالإفراج عن الأسرى وتسليمهم للنظام ، ومن خلال لجنة التفاوض التي شكلّها أهل حوران جاءت المطالب أكثر إحراجاً للنظام والروس المشرفين على جولة التفاوض عندما ورد من جملة المطالب الإفراج عن المعتقل عبد العزيز الخير ابن القرداحة الموجود في سجون النظام منذ عام 2012 وهو عضو بارز في هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي التي أساساً لم تكن تتبنى مطالب الثورة بشكل كامل وظلّت تعمل من قلب دمشق. 

الأوراق التي في يد ثوار درعا هي الآن أقوى من أوراق النظام الذي بدا وكأنّه يريد الإنتقام من المحافظة التي رفضت المشاركة في الإنتخابات الهزلية التي أجراها الأسد مؤخراً لتجديد رئاسته لسبع سنوات أخرى، وهذا ما جعل الروس يحجمون عن دعم حملته العسكرية ضد أهالي حوران، ومن جانب آخر كان إصدار بيان من الأهالي بطلب السماح لهم بترك المحافظة وتهجيرهم خارجها له كبير الأثر على المستوى الدولي، وأنّهم لا يريدون القتال ولا يقبلون بأن يكونوا تحت سطوة جنود الأسد والميليشيات الإيرانية، الأمر الذي دفع الجانب الروسي لإبداء الليونة معهم ومحاولة إيجاد حلول ترضي الطرفين، فيما بدا طرف النظام أكثر تعنتاً وخاصة الطرف المدعوم إيرانياً المتمثل بالفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد، وخاصة بعد استبدال الجنرال " أسد الله" الذي هدد أهالي درعا بضرورة الانصياع للنظام. 

مهما تكن تداعيات ما يحدث الآن في درعا ولا يمكن توقع خواتيمها، ولكن من المؤكد بأن قواعد اللعبة التي استمرّت لعقد من الزمن لم تعد صالحة اليوم، لأسباب عديدة لعل من أهمها انتفاء ذريعة " داعش" وخاصة في درعا ناهيك عن التسوية التي أبرمت بين النظام وفصائل المعارضة في تموز/يوليو 2018 برعاية روسية وكانت تقضي بتسليم الفصائل لسلاحها الثقيل مقابل عدم دخول قوات النظام إلى مناطق سيطرة الفصائل، هذا إذا ما أضفنا الصمت الأميركي الذي يبدو أقرب إلى كونه بمثابة الضوء الأخضر للروس لتنفيذ الرغبة الإسرائيلية بإخراج الميليشيات الإيرانية من سورية أو على الأقل إبعادها عن المناطق الحدودية إلى مسافة 80 كم. 

كلّ ذلك يأتي في جو من الإفلاس الداخلي في مناطق سيطرة النظام على كلّ الصعد، وبوادر التململ حتى بين جمهوره وحاضنته في الساحل بسبب تردي الحالة المعيشية بشكل مخيف، كان آخرها احتجاجات مصياف والتي قابلها النظام بوعود "خلبية" اطمئنوا لها، ولكنهم استيقظوا في اليوم التالي على حريق يلتهم بساتينهم والغابات المحيطة بها.

يبدو أن توقيت تصريح ( قدري جميل) الأخير بضرورة التغيير الفوري للنظام هو رسالة مبطنة من الروس للأسد كي يتخلى عن إيران وهو الأمر الذي فسّره الصحفي ( رامي الشاعر) المقرب من الخارجية الروسية، وضرورة العودة إلى الحل السياسي والتخلّي عن الحسم العسكري الذي انتهجه النظام طوال المرحلة السابقة، وربما تكون البداية من الإنسحاب من محيط درعا وفك الحصار. فهل ماكتبه أطفال درعا في آذار 2011 يتحقق في 2021 ؟

 

 

ياسر الحسيني 

كاتب وإعلامي سوري

Whatsapp