سلامات غير عاديّـة


  مرحباً أيها الرّجل الذي يحمل أكياس حاجياته على كتفه متجهاً إلى أطراف المدينة حيث يسكن في بيته الكرتوني المعلّب ... يغضّ الطرف عن مخالفات التسعيرة في باب جنين، ويرضخ لغلاء السيرفيس الاعتباطي في رمضان .. وقد يتعلّق بأيّ شاحنة كالأغنام مقابل خمسمئة ليرة ليضمن وصوله قبل مدفع الإفطار كما يفعل شرطيّو المرور وغيرهم مما يجعل فترة الإفطار فرصة مناسبة لكلّ المخالفات، بما في ذلك إدخال المواد المهرّبة إلى المدينة. 

     مرحباً أيها الرّجل الذي يدفع ثمن تذكرة مسرحية (فلّسنا) عشر مرّات من غير أن يجرؤ ليعترض على عملية البيع الإجباري، لذلك يشتريها مع ربطة خبز من المؤسسة، ومع استخراج قيد نفوس أو سجلّ عدلي، ومع دفع ضريبة تمتّع وشرفيّة على غرفته التي تطلّ على (نهر قويق) وتسـتورد البعوض والروائح الغريبة القادمة منه. هذا الرّجل لا ينفر من هذا الترهيب للترغيب بالمسرح، بالرغم من أنّه لا يعرف أين تقع صـالة العـرض، وهو لا ينفر لأنّه رجل مسالم.

مرحباً أيها الرجل المسالم الذي يمثّل دور الذين يحيون، يمارس لعبة الكلام المنمّق، ويرسم على محيّاه ملامح رجل سعيد، بالرّغم من أنّه وصل إلى مرحلة الموت من القهر.

    ينحني لعامل المصعد .. ولسائق الباص .. والخباز .. وعامل المقهى .. وحين أصادفه .. ينحني ، ويمدّ يده ، من بين أكياسـه الثقيلة، مصافحاً وهو يقول : أهلاً يا أستاذ .. والله الدنيا لا تعاش بغير شـهادات. 

  مرحباً أيهّا الرّجل الذي أصادفه ويظنّ أنني (باشا) هذا الزمان، وما ذاك إلاّ لأننّي أضع ربطة عنق، وأحمل في يدي حقيبة ثقيلة تضفي عليّ بعض الهيبة، لأعوّض عن خيبتي بشهادة لم تُتح لي الحكومة بعد فرصةً للاستفادة منها.

   مرحباً أيها الرّجل الذي أتحمّل عنه وعنّي، لأننّي أدرك بعض ما نعانيه معاً، ويظنّ أننّي بخير. 

       ولكننّي في الحقيقة، مثل الألاف الذين يتعذّبون مرّتين، مرّة لأننّا نعاني من واقع مأزوم، ومرّة لأننّا نعي أننّا مأزومون.

    فمن يـدرك عـذاباتـنا نحن الذين نراوح بين الحلم والكتابة؟ 

    نرسم أحلاماّ زهريّة مغرقة بالأمل، لأننّا نعيش واقعاً يطفح بالألم. نتلفّت حولنا فيصفعنا اليأس من كلّ جانب، نهرب إلى مفرزات التقنيّة ونجثم أمام التلفاز ساعات طوال فتشتدّ علينا نواصي الحصار.

    يحـاول (أبو سـعد) أن يتخلّص من سـأمـه بالـنرد، ويشـاطره (أبو طارق) التناسي كي لا يفجّر رؤوسنا السؤال: متى نتخلّص مما نحن فيه وينزاح الكابوس الجاثم فوق صدورنا؟ ولهذا يلعبان ويراهنان على ضربات القدر.

    أمـّا أنا فلا أجد نفسي سوى نرد تقذفه أيدي الآخرين، وأحجار شطرنج يحرّكها مالك الرقعة بأسلوب عشوائي يظنّ أنّه يحقق مآربه. 

     آخذ ورقة وقلماً فيسطّر الملك نفسه ساخراً مما أفكّر فيه، فأشرب كلّ مقالبه دفعة واحدة وأقلّد أبا سعد: متى ينتهي هذا الذي لا نسمّيه؟ 

     أسند رأسي بيدي وأنا أرقب بصيص ضوء قادم من السماء .. مرحباً أيّها النّور الذي يشعّ ليبقى الوطن عزيزاً في داخلنا .. ومرحباّ أيـّها الوطن الذي لا يستكين.

 

 

د. محمد جمال طحان 

كاتب سوري

 

Whatsapp