قصتان


 

  1. نعنع خاص

 

ككل النساء في مدينتنا المرهقة ليلا، الملتهبة نهاراً بصراخ الأطفال وأصوات الباعة، اُجيد خياطة الوقت، أتركه فضفاضاً لا يشفَّ عن وجع ولا يصف ألماً.

أذكرُ أنه كان للنعنع رائحة شهيّة تضيف للشاي نكهة محببة، في الأيام التي كنّا نشربه معاً في الشرفة المطلّة على شارع ضيق يكسو الشجر فيه نصف الضوء فيكسره.

ويخفي عنا وجوه العشاق الذين يتواعدون سراً ليتبادلوا مكاتيب الغرام المعطّرة والقبلات المسروقة من العيون للعيون.

 نهمس بنصف الحرف فيخرج من شفاهنا ندياً عذباً كضحكة خجولة.

قصصت مرَّة فستاناً للحب وطرزته بالورد الربيعي، فصّلته على مقاس عشقك تماماً وعند الكتف أضفت له قطعة شيفون (مزمومة)، وجيب صغير تحت الخصر لتخفي فيه أصابعك التي كانت تضمُّ خصري النحيل.

أقسمتَ لي مرَّة، أنني أشبه جنّيات أفكارك بخفة تسللهن إلى منامك، وأنني أفوقهنّ بالخفّة لذا تسللت إلى قلبك من يمينه إلى يساره كما يفعل قوس قزح بالسماء بعد مطر ناعم فلا يمكن إخفاؤه.

أنا إمرأة ذات سمعة قلب طيبة كلّما هجرتها شعرت بالحنين لك مجدداً، وجلست لتفصل لك ثوباً ضيقاً على مقاس قلبك الذي يتسع لكل نساء الأرض معها.

فهلّا أتيت لتشرب الشاي بالنعنع معي أنا فقط؟.

واحتسي قهوتك مع حبيباتك في المقاهي!.

أعدك، لن أنزعج من نفث دخانك في وجهي كما كنت دائماً.

فقط تعال، لأنَّ شتلة النعنع المزروعة في آنية الفخّار على الشرفة كبرت كثيراً، ووجوه العشّاق في الشارع تغيرت كثيراً ولم يعودوا يتبادلوا مكاتيب الغرام، استبدلوها برسائل إلكترونية ومشاعر باردة.

لا تأتي..

أكل الصدأ عجلات ماكينة الخياطة وأصبح المقص مثلّماً، ولم أعد أُجيد إدخال الخيط في ثقب الإبرة.

 مللت الخياطة، واكتفيت بمسح الغبار عن صورتك المثبتة على الجدار، كرهت الشاي وماتت شتلة النعنع.

 

  1. أبيض أبيض


 

يغريها اللون الأبيض مذ كانت طفلة، ففي عقدها الأول كانت أمها تختار لها الملابس الفاتحة المنقوشة بالياسمين والأحذية والجوارب المزينة (بالدانتيل) الأبيض (المزموم)...!، طفلة مشربة بالحمرة ممشوقة كزنبقة برية، تتدلى خصلاتها الملفوفة كزنبركات مرتبة.

الشارع الخلفي لبيتها، شارع عريض، في نهايته عند المفترق شجرة يطليها صاحب البيت من خصرها للأسفل بالكلس الأبيض وكأنها كأس من (الكريستال) بكعب رفيع تغمره مكعبات الثلج من أعلاها.

كانت تشاركها بكل صورها، بل تأخذ الحيز الأكبر فيها فلا يظهر منها إلّا العينان الصغيرتان وتلك الغمازة المغروسة أسفل الذقن وبضحكة بريئة تظهر أسنانها اللبنية البيضاء.

تعشق الفئران فابتاعت ذات مرة فأراً أبيضاً (هامستر) أسمته (سوغي) كان اسمه يتكرر في مجلة أطفال باللغة الفرنسية، أحبته وقتها ونقلتُ (سوغي) الوهمي المزروع في مجلة ورقية إلى عالمها الواقعي.

كان يركض في دولاب صغير مثبت داخل قفصه الصغير، لكنه لم يصل إلى أية نهاية إلا نهايته.

وككل اليافعات كان حلمها الفستان الأبيض والطرحة والخاتم الفضي الصغير الذي سيهديها إياه فارسها القادم على ظهر حصانه الأبيض.

ذات يوم حملت بعض الكتب، وكيساً يضم أشياءها، سارت في الشارع العريض وعقلها مشغول بكثير من الأفكار، ثمة سيارة مرسيدس بيضاء تسير باتجاهها بسرعة جنونية، أفكارها التي راودتها عند قطع الشارع والأصوات العالية والصراخ والسماء والمشهد كلها كانت بعيدة كغيمة بيضاء.

كل ما تلمحه الآن أبيض، الشراشف، الغطاء، ملابس الممرضة، سقف الغرفة، أضواء كبيرة فوقها مباشرة.

هي الآن ملاك صغير كل ما حولها، أبيض إلاّ دمع أمها وعيناها الحمراوين، ولا تعلم لماذا ترتدي أمها الملابس السوداء...؟

فقط لو لم تقطع الشارع لو أنّها صعدت السلم الموسيقي بدون السماعات، لو .... لو 

 

 

 مرام رحمون

كاتبة سورية مقيمة بالأردن

 

Whatsapp