غسيل دماغ


 

بتمويل من وكالة الاستخبارات الأميركية قام عالم النفس كاميرون بإجراء تجربة على عدد من المرضى النفسيين دون إذن منهم ( 198 مريض )، كان الهدف منها محاولة مسح ذاكرة الإنسان وتحويلها إلى صفحة بيضاء خالية من أي أفكار أو تصورات مسبقة ثم إعادة برمجة الدماغ عبر زرع أفكار جديدة فيه، بحيث تنتج التجربة إنسانًا آخر بأفكار وقيم وتصورات، مختلفة تمامًا عما كانت عليه. من أجل ذلك تم تعريض دماغ المرضى لموجات متتالية ومتصاعدة وشديدة من الصدمات الكهربائية على فترات طويلة مع بعض العقاقير التي تؤثر على الذاكرة والتركيز، بعد فترة أصبح المرضى في حالة من عدم التركيز والتوازن والإدراك والتجاوب مع المحيط بشكل واع، عندها بدأ كاميرون بالمرحلة الثانية من تجربته عبر وضع صوت في غرفة المريض يتكرر من 16 الى 24 ساعة يوميًا يبث أفكارًا جديدة ومفاهيم يحاول كاميرون زرعها في ذهن المريض .

مبدأ التجربة يستند إلى فكرة من ابتكار كاميرون نفسه تقوم على حرمان الإنسان من إحساسه بذاته وبالزمان والمكان( إعادته إلى مرحلة الطفولة فكريًا واجتماعيًا) وعندها يصبح المريض أكثر انفتاحًا على الإيحاءات وأكثر استعدادًا للامتثال للتعليمات وأكثر تقبلاً لتغذية الدماغ بمنظومة فكرية جديدة. 

نجحت تجربة كاميرون نجاحًا كبيرًا في المرحلة الأولى، لكنها فشلت فشلاً ذريعًا في المرحلة الثانية. استطاع كاميرون تحطيم شخصية مرضاه لكنه عجز عن إعادة بنائها. أمكن لهذا العالم الشرير أن يمسح ذاكرة المرضى ويشوش وعيهم ويضرب منظومة أفكارهم ومعتقداتهم لكنه فشل تمامًا في إعادة بناء وعيهم وتركيب شخصية جديدة متوازنة فكانت النتيجة أن انتهى المرضى بحال أسوأ كثيرًا مما كانوا عليه قبل التجربة، وخرج معظمهم بعاهات جسدية ونفسية عميقة منعتهم من استمرار حياتهم بشكل مقبول ومستقل ومتوازن.

استفادت وكالة الاستخبارات الأميركية( وغيرها الكثير من الاستخبارات خاصة في الدول التي لا سلطان فيها للقانون) من الشق الأول من التجربة فطبقته على سجناء غوانتينامو وغيره من السجون التي تقيمها أميركا في دول أخرى تحت رعايتها وخارج سلطة القانون الأميركي، وبالطبع استخدمته الكثير من الديكتاتوريات في محاولة للتأثير على سجناء الرأي والمخالفين أيديولوجيًا بهدف مسح ذاكرتهم وتشويه وعيهم والتشكيك في معتقداتهم وتدمير شخصيتهم.

إنها بمثابة عملية غسل للدماغ ( والتي يعود تاريخها إلى الفراعنة والصينيون القدماء) ولكن بطرق أكثر وحشية وأبعد ما تكون عن الإنسانية في عصر يدعي فيه الغرب المسيطر أن للحيوانات في ميزانه حقوق فضلًا عن حقوق الإنسان التي يفترض أن تحظى باعتبار وقيمة أعلى من ذلك بكثير. 

ما حصل في تجربة كاميرون ( والممولة من الإستخبارات الأميركية) هو جريمة بكل المقاييس ولا يمكن تبريرها تحت أي مسمى. وما يفعله الطغاة والسياسيين والظلمة من محاولة لغسيل دماغ سجناء الرأي والمخالفين مستفيدين من نتائج تلك التجربة هو جريمة بكل المقاييس.

الجريمة الأكبر والأخطر هي تلك التي تجري اليوم على قدم وساق في محاولة لإجراء غسيل دماغ تاريخي وثقافي وحضاري على مستوى مجتمعات ممتدة عبر المكان والزمان والحضارة في محاولة واضحة لطمس هويتها وتشويه ملامحها في أذهان الأجيال الصاعدة. جريمة يحاول القائمون عليها استخدام وسائل مشابهة لتلك التي استخدمها كاميرون ولكن هذه المرة على مستوى المجتمع. صدمات اجتماعية وهزات سياسية واقتصادية ضخمة وعقاقير إعلامية تحاول محو الذاكرة الجمعية وأفكار مخدرة للضمير ودراما مشوشة للذهن ومميعة للمبادئ وبرامج هادمة للقيم ومرتزقة عديمة الأخلاق تصول وتجول على وسائل الاعلام والتواصل. تهدف بأكملها إلى إجراء غسيل دماغ اجتماعي وفكري وأخلاقي وحضاري مدعين أنهم يهيئون المجتمع للانتقال إلى المرحلة الثانية وهي زرع قيم ومبادئ جديدة ومعايير حضارية غربية جديدة تتناسب مع جو الحريات السائد في العالم المتقدم. لكنهم يدركون مسبقًا أنهم سيفشلون – كما فشل كاميرون – في المرحلة الثانية، وأكاد أجزم أنهم حتى لو امتلكوا أدوات النجاح للمرحلة الثانية لن يستخدموها إلا في زرع قيم سافلة وأفكار تافهة تفرغ المجتمع من مخزونه الفكري والحضاري والقيمي القادر على بعث الأمة من جديد، لأن هدفهم الحقيقي ترك الشعوب في مناطقنا بلا ذاكرة ولا قيم ولا مسند حضاري. يريدون أن نتحول إلى قطيع لا يفكر ولا يقاوم ولا يطمح ولا يتذكر. يريدوننا عبيدًا لهم يستعملونهم في خدمة بلادهم وأجنداتهم. وقد نسوا أن زمن العبودية ولَّى منذ حين. وقد غفلوا أن جذور هويتنا عميقة ومادتها نورانية ومنبعها سماوي وأنها عصية على صدماتهم وعقاقيرهم وأدواتهم الخبيثة.

 

 

د معتز محمد زين

كاتب وطبيب سوري

Whatsapp