بعد الإنسحاب الأميركي من أفغانستان والذي يعتبر من مخرجات المحادثات الأميركية مع حركة طالبان في الدوحة، الأمر الذي انعكس بشكل دراماتيكي على الحكومة الأفغانية التي رعتها الإدارات الأميركية المتعاقبة، وقدمت لها دعماً عسكرياً ولوجستياً كان يفترض به أن يؤدي -على الأقل- إلى الصمود لحين تحقيق تقاسم للسلطة مع الحركة، هذا السيناريو بدء يُشعر بمخاطره كل من كان يعتمد في وجوده في الحكم على القوة العسكرية الأميركية، وما يهمنا هنا هو ما يسمى بمنطقة شرق الفرات أو منطقة (حكم الإدارة الذاتية).
فالإدارة الأميركية التي تستشعر بسيطرة "حزب العمال الكردستاني" (PKK) على ما يسمى بالإدارة الذاتية وإحكامه السيطرة على مؤسساتها المدنية والعسكرية، وبالتالي تقليص نفوذ قائد قسد (مظلوم عبدي)، مما جعل هذه الإدارة الذاتية حالياً، منقسمة بين تيار مقرّب من أميركا وتيار آخر يعمل وفق أجندات العمال الكردستاني الذي يعتبر المسيطر الفعلي على المنطقة. ويؤكد المسؤولون الأميركيون أن ذلك هو مايعقد من إمكانية تعطيلهم لمحاولة تقويض تجربة الإدارة الذاتية بإعتبارها إمتداد لسيطرة الــ(PKK) على المنطقة وتقوية نفوذها في شمال العراق، لا سيما في ظل مظاهر الدعم والتبعية بالعلن لحزب العمال الكردستاني – التركي، كما يعيق عملية تشكيل مرجعية سياسية موحدة لأكراد سورية.
حيث عمدت الإدارة الأميركية منذ سنوات إلى رعاية الحوار بين "المجلس الوطني الكردي" في سورية، و"أحزاب الوحدة الوطنية الكردية" وأبرزها "الاتحاد الديمقراطي"، التي تشكل مايسمى بالإدارة الذاتية في الشمال الشرقي من البلاد، ولكن هذا الحوار تعثّر بعد عدة جولات بسبب رفض حزب "الاتحاد الديمقراطي" إبداء أي مرونة حيال العديد من القضايا، منها فكّ الارتباط بينه وبين حزب "العمال الكردستاني"، إضافة إلى تعديل العقد الاجتماعي المعمول به فيما يسمى بالإدارة الذاتية، وإلغاء التجنيد الإجباري مع إدخال "البشمركة السورية" إلى الشمال الشرقي من سورية، إضافة إلى مسألة الوضع التعليمي وإيجاد حلّ عملي يضمن مستقبل الطلبة بشهادات معترف بها، وإدخال التعليم باللغة الكردية بشكل يناسب ذلك، وحسم مصير المعتقلين والمختطفين. وكانت الإدارة الأميركية تسعى بعد إنجاز الاتفاق الكردي-الكردي، إلى البدء بحوار شامل في الشمال الشرقي من سورية بين الأكراد وباقي المكونات القومية في المنطقة من عرب وسريان.
إلا أن فشل محاولات الإدارة الأميركية في إنجاز الحوار الكردي-الكردي بالرغم من تحذيرها بإمكانية إعادة النظر بدعمها لما يسمى بالإدارة الذاتية شمال شرقي سورية إذا لم تستطع أن تكون شاملة لكل مكونات المنطقة. هذا الفشل بدأ يثير إمكانية قيام حملة عسكرية تركية جديدة على مناطق ما يسمى بالإدارة الذاتية، انطلاقاً من أنه لا تفضيل أميركي لأيَّ جهة على تركيا كفاعل أساسي ضمن المشاريع الأميركية في بحر قزوين والبحر الأسود والقفقاس وهو ما يعني توجه المساعي في الإدارة الأميركية لتحقيق المزيد من مساحات التوافق مع تركيا، وبالتالي التركيز المستقبلي على العلاقة مع أنقرة أكثر من شمال شرق سورية، خصوصاً أن فلول تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) المتبقية ليس في استطاعتها تشكيل خطر حيوي وجودي على المصالح الأميركية في المنطقة، ولا حتّى على الأمن المستدام.
إضافة لأنه لايمكن لأميركا أن تضحي بحليف استراتيجي تاريخي قوي، مقابل شريك في محاربة "داعش"، يُغير من تكتيكاته بشكل دائم، وغير منسجم مع التوجه الأميركي ومشروعه لتقريب، ثم توحيد الرؤى السياسية والإدارية والعسكرية لطرفي الحوار الكردي. من هنا يجب أن نتفهم الدعم الأميركي المشروط بتنفيذ ما يسمى بالإدارة الذاتية لمتطلبات الحوار الكردي وتشكيل مرجعية كردية واحدة في سورية. إضافة لكون هذه القوات "قسد" لم تتوقف عند حدود القتال ضد "داعش"، إذ كبرت مطامعها وكرست سلطاتها على مناحي الحياة كافة في مناطق نفوذها، وصولاً لمرحلة سعي هذه القوات لتكريس وجودها كلاعب لا يمكن تخطيه في أي معادلة لحل القضية السورية. من هنا ظهرت مساعي في الفترة الأخيرة من قبل مسؤولي ما يسمى بالإدارة الذاتية للضغط باتجاه الحصول على اعتراف دولي بها، لإضفاء الشرعية على تجربتها. وتزامن ذلك مع زيارة قام بها وفد من قبلها إلى فرنسا، التقى خلالها بالرئيس إيمانويل ماكرون.
ونظراً لكون المزاج الأميركي العام والسياسيين يميلون حالياً للانكفاء عن المناطق الخطيرة، والتي ليست ضمن دائرة التهديدات المباشرة، من أجل التفرغ لمواجهة الصعود الصيني في المناطق الأكثر حساسية وحيوية بالنسبة للولايات المتحدة (بحر الصين الجنوبي-جنوب شرق اسيا) بالإضافة إلى افتراض أن هذا الانكفاء العسكري سيوفر الكثير من الناحية الاقتصادية التي يمكن توظيفه في مواجهة الصعود الاقتصادي للصين أيضاً، رغم أن كلفة التواجد العسكري في شرق الفرات والتنف منخفضة جداً. وإن كان الانسحاب العسكري الأميركي من عدمه يحدده توازن عاملي الأهداف الاستراتيجية من جهة، والكلفة البشرية والاقتصادية للبقاء من جهة أخرى، وحيث أن العامل الاستراتيجي يتمثل بالدرجة الأولى بالصراع مع إيران، والحفاظ على أمن اسرائيل المهم بالنسبة لواشنطن، أما في سورية فالصراع الأساسي على النفوذ مع روسيا وإيران، ومع تركيا بدرجة أقل يبرز كدافع مهم، وكذلك يسهم هذا البقاء في منح إدارة بايدن القدرة المستمرة على لعب دور في أي تسوية سياسية فيها، هذه التسوية التي بدأت عملياتها تنسق من خلال الحوار الأمريكي الروسي، إضافة إلى محادثات فيينا مع الجانب الإيراني، وبالتالي بدأت عملية تخفيض وتيرة المواجهة العسكرية وتزايد دور الدبلوماسية في حللت عقد المواجهة والخلافات حول توزيع المصالح ومناطق النفوذ.
من هنا يمكن فهم تصريحات الرئيسة المشتركة لمجلس سوريا الديمقراطية "مسد" إلهام أحمد، بضرورة التحضير والاستعداد لانسحاب محتمل للقوات الأميركية من شمال شرق سورية. والتي عكست الشعور بالإنكفاء الأميركي عن المنطقة، وفي ذات الوقت الشعور بأن انسحاب الأمريكان، من المرجح أن يؤدي إلى إنهاء تجربة ما يسمى الإدارة الذاتية في شرق الفرات. وهنا يجدر بقيادات قسد وإفرازاتها التفكير حول مستقبل وجودهم في المنطقة بعد سنوات من اللعب على الحبال في تحالفاتهم بين عصابات الأسد والروس والأميركان، قبل أن يسبق السيف العذل.
د.م. محمد مروان الخطيب
كاتب وباحث سوري